الحاجة لمزيد من أدب الفانتازيا الحديثة




( الكيل بمكيالين ) هو مفهوم سياسي صيغ بهيئته الحديثة عام 1912، وهو في حقلنا الأدبي الثقافي يعبر عن إزداوجية المعايير في النقد، فأنت تنقد وتحتفي وتشتري العمل الشهير حتى لو كان ركيكًا، وتهمل تمامًا العمل الثري فنيًا ومعلوماتيًا وتوثيقيًا ولو كان آية في صنعة الكتابة، ويعبر المفهوم كذلك عن استساغتنا لكل أو معظم ما يكتبه الكبار والمشاهير والقدماء، وإنكارنا حد الهجوم الفاحش لجل ما يكتبه الكتاب الشباب، حتى ولو تفوقوا في كتاباتهم على أقرانهم وأساتذتهم من المشاهير والمحترفين..


وفي مجال الرواية ضمن عشرات المجالات الأدبية والمكتوبة، نجد استهانة عجيبة، واهمالا غريبا، وجهلا منكرا، وتسطيحا مخزيا، رغم أن الروايات عبر التاريخ صنعت عباقرة وعظماء خدموا أممهم وأوطانهم، وصاروا مفكرين يهدون البشرية نورها.. وإذا ما تجاوزنا المتجاهلين وجهلهم الفاحش بفن الرواية، سنصدم في فئة القراء المخضرمين والمتوسطين لهذا الفن الرفيع، إذ سنجدهم يعانون بنفس الدرجة مع أحد أفرع هذا الفن، وهو فرع الفانتازيا.. وقد أجرموا في حقه إجراما لا يغتفر، وأساءوا له بما لا يمكن تجاوزه، وقد ضلوا السبيل عن عمل كـ (ألف ليلة وليلة)، الإنجاز الأسطوري الضخم الذي اعتنى به الشرق والغرب، واصطبغت به نظرة الغرب الى العالم الإسلامي عموما حتى هذا اليوم، والذي ألهم عشرات الفنانين في مسرحياتهم وموسيقاهم ورواياتهم وأفلامهم، حتى أنه يعتبر منبع الواقعية السحرية التي نشرها أدباء أمريكا اللاتينية وطافوا برايتها العالم كله..
والفانتازيا في أوسع معانيها تضم كل الفلوكلور الخيالي والخرافات الشعبية والأشعار الأسطورية والملاحم العجيبة التي يتداولها البشر منذ فجر التاريخ، وتدور أحداثها في جو ساحر ومغامرة ممتعة، تلهب خيال الصغار، وتمتع عقول الكبار، وتعدهم دومًا بإبهار جامح لا ينتهي، منذ ملحمة جايلاميش أولى الوثائق التي عرفتها البشرية الى الأودِسة لبيو وولف، ومن ماهابهاراتا لألف ليلة وليلة، ومن رامايانا إلى رحلة إلى الغرب، ومن أسطورة آرثر الرومانسية في العصور الوسطى إلى الشعر الملحمي مثل الكوميديا الإلهية ، إلا أن أدب الفنتازيا الحديثة دائماً ما يُؤرخ بداية من جورج ماكدونالد الكاتب الأسكتلندي، الذي تأثر به أستاذاي أنا شخصيًا جيه آر آر تولكين و جورج آر آر مارتن، وقد أقيم أول مؤتمر عالمي للفانتازيا سنة 1975 ويقام سنويًا منذ ذلك الحين..

 الآن أود أن أجري اختبارًا صغيرًا، فأنت ستقرأ هذا المقطع وتخبرني برأيك فيه أو تحتفظ به في ذهنك قبل أن تعرف بقية الإختبار، بحيث تتأكد أولا من رأيك الخاص بما ستقرأ.. مثلا فكر إذا كان هذا الكلام روائيًا أم تأريخيًا، خياليًا أم حقيقيًا، كتبه محترف أم مبتدئ.. وإذا ما كان كاتبه شاب صغير ما رأيك فيما كتب؟ وإذا كان كاتبًا عظيمًا مهيبًا فما الذي رأيته في كلامه؟ اقرأ وحدد رأيك بمنتهى الحياد والصراحة والشفافية من فضلك:

    " ومنها جزيرة السعالي: وهي جزيرة عظيمة بها خلق كالنساء إلا إن لهم أنياباً طوالاً بادية، وعيونهم كالبرق الخاطف ووجوههم كالأخشاب المحترقة،
    (1/195)
    يتكلمون بكلام لا يفهم ولا فرق بين الرجال والنساء عندهم إلا بالذكر والفرج، ولباسهم ورق الشجر ويحاربون الدواب البحرية ويأكلونها.
    وجزيرة حسرات: وهي جزيرة واسعة فيها جبل عال، وفي سفحه أناس سمر قصار لهم لحى طوال تبلغ ركبهم، وجوههم عراض ولهم آذان كبار وعيشتهم من الحشيش، وعندهم نهر صغير عذب.
    وجزيرة العرر: وهي جزيرة طويلة عريضة، كثيرة الأعشاب والنباتات والأشجار والثمار.
    جزيرة المستشكين: وتعرف بجزيرة التنين. وهي عظيمة بها أشجار وأنهار وثمار، وبها مدينة عظيمة، وكان بها التنين العظيم الذي قتله الاسكندر. وكان من حديثه أنه ظهر بها تنين عظيم، فكاد أن يهلك الجزيرة وما بها من السكان والحيوان، فاستغاث الناس منه إلى الإسكندر وكان الإسكندر قد قارب تلك الأرض، وشكوا إليه أن التنين قد أكل مواشيهم وأتلف أموالهم وقطع الطريق على الناس وأن له عليهم في كل يوم ثورين عظيمين ينصبونهما فيأتي إليهما كالسحابة السوداء وعيناه تتوقدان كالبرق الخاطف، والنار والدخان يخرجان من فيه فيبتلع الثورين ويرجع إلى مكانه.

    (1/196)
    فسار الإسكندر إلى المدينة وأمر بالثورين فسلخا وحشا جلودهما زفتاً وكبريتاً وزرنيخاً وكلساً ونفطاً وزئبقاً، وجعل مع ذلك كلاليب من حديد وأقامهما في المكان المعهود، فجاء التنين من الغد إليهما على العادة فابتلعها، فأضرمت النار في جوفه وتعلقت الكلاليب بأحشائه، وسرى الزئبق في جسده ورجع مضطرباً إلى مقره. فانتظروه من الغد فلم يأت ولم يخرج، فذهبوا إليه فإذا هو ميت وقد فتح فاه كأوسع قنطرة وأعلاها. ففرحوا وشكروا سعي الإسكندر إليهم وحملوا إليه هدايا عجيبة منها دابة عجيبة يقال لها المعراج مثل الأرنب، أصفر اللون وعلى رأسه قرن واحد أسود لم يرها شيء من السباع الضواري والوحوش الكاسرة إلا هرب منها. "


    الآن تخيل معي أن سكان جزيرة (السعالي) ما هم إلا الموتى الأحياء (الزومبي) الذين لا تكف (هولييود) عن صنع أفلامهم ومسلسلاتهم المرعبة، وسكان جزيرة (حسرات) ما هم إلا الأقزام اللطفاء المذكورين في قصة (سنو وايت) أو في رواية (الهوبيت)، والذين يعتزون بلحاهم كثيرًا حتى صار دعاءهم لبعضهم البعض (أطال الله في لحيتك)! أما تنين جزيرة (المستشكين) فأنت تعلم كيف أنه أكثر الحيوانات الخيالية انتشارًا بين الشعوب على اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وقصصهم، ويمكنك أن تتخيله كالتنين (سموج) بطل سلسلة أفلام (الهوبيت)، أو التنين الذي ظهر في الفيلم الفانتازي الجميل (أحداث نارنيا)، أما دابة (المعراج) ذات اللون الأصفر والقرن الأسود، فلا نظير لها عندي ولا شبيه، فهي إبداع جديد كل الجدة..
 فلو قلت لك أنني أنا من ألفت هذه الأفكار الغريبة، أو أنه أحد أصدقائي من الكتاب الشباب، لإتهمتنا بفرط الخيال وربما أعرضت عن القراءة لنا مستقبلا، في حين أن البعض حتما سيستعير السياسة التي أشرت لها في مطلع التدوينة سياسة (الكيل بمكيالين)، وسوف يمدح ويشيد بهذا المقطع لو عرف أن كاتبه هو: العالم والجغرافي والأديب والقاضي والنحوي الكبير (سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي)، وذلك في مخطوطه الشهير "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" المتخصص في علوم عصره الجغرافية والمكانية !
     الفانتازيا فن أدبي رائع، حاول تشجيعه وتشجيع أدباؤه الشباب قبل الكبار إن وجدوا.. فإن كنت من جمهور الشاشة فقط؛ فلا تضع خيال الورق في مقارنة مع الإبهار البصري، وإن كان جموح الخيال على الورق أثمن وأشهى وأبعد إحاطة ونظر.. 
    #قريبًا_روايتي_الفانتازية_الأولى

    تعليقات

    المشاركات الشائعة