(أحمد خالد توفيق) فيلسوف أدب الناشئة


هل عجز كل محبي (أحمد خالد توفيق) ممن تصدوا للحديث عنه في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة، ومعظمهم مثقفون وكتاب يشهد لهم بسعة العلم، أسهبوا في الدفاع عن الراحل القدير خلال الأيام الأربعة الماضيات، من أن يضمنوا دفاعهم البليغ، وصفًا قصيرًا ولو لسطر واحد، عن أهمية (أدب النشء) الذي تخصص فيه الراحل بجدارة لم يسبق لها مثيل، كالعملاقين (محمود سالم) رحمه الله و(نبيل فاروق) متعه الله بالصحة؟
هل عجزوا - باستثناء أحمد الفخراني وهشام فهمي - عن ذب وصف (كاتب قصص رعب) الذي بدا كاتهام، وراحت الألسنة تلوكه أمام عقول لن تهضمه، ولن تضعه إلا في مكانة مهملة بين مستويات الأدب، عن جهل أو استخفاف؟
الوصف ليس مهينًا أو ينتقص من مكانة أستاذي الراحل، لكن لغير المتخصصين قد يبدو غير ذي أهمية، وكان يستحب أن نختصر الطريق، ونقول لعوام الناس ممن لا يقرأون، وإن قرأوا لن يقرأوا للعراب أدبه الموجه للناشئة، والمصبوغ بحس انساني عظيم وفلسفة مدهشة وسخرية راقية وشاعرية شجية، أنه يعتبر J. K. Rowling (جي كي رولنج) العرب، وأنه مثلها صنع "هاري بوتر" بمواصفات سحرية خاصة ومصرية، لكنه شيخ لطيف اسمه (رفعت اسماعيل) يواجه النداهة والجاثوم وغيرها من الوحوش العجيبة، وسط جو يحبس الأنفاس من المغامرة المشوقة.
يمكن تعريف أدب الناشئة بأنّه الأدب الذي لا يناسب الأطفال بشكل تامّ، ومن الصعب تعريفه كأدب للكبار. إنّه أدب الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ. وهو كما ترى أدب عظيم يساهم في تكوين نفسيات العظماء، والارتقاء بشأن القارئ في أهم مراحل حياته على الإطلاق، وهي المرحلة التي يتحدد فيها مستقبله بتحديد اختياراته.
إن الاستخفاف الواضح والتخبط المشين في تناول تخصص الرجل الأدبي، أشعرني بفداحة المأساة في بلادنا التي لا تقرأ، ولا يهمها أن يقرأ أبناؤهم، بما أنهم - الأباء والأمهات - قد تفرغوا قبل أطفالهم لتصفح الانترنت واليوتيوب، وليذهب الأدب والأدباء إلى الجحيم. هذا التخبط أوحى لي بارتباك المقربين من الدكتور، وكأنهم بمحاولتهم توضيح أهمية وحجم عطاء المرحوم، بين مطرقة الخجل وسندان الجهل لتوصيل نوع كتابته بطريقة لا تشوبها تهمة الكتابة للأطفال، في إصرار منهم - وهم من طبقة الثقافة - على الاشتراك بين عوام الجهلاء في الانتقاص من الكتابة للأطفال، واعتبارها فنا هابطا مثلا، أو غير ذي شأن، أو لا يمكن احترامه، وهي ظلمات من فوقها ظلمات أدعو الله أن يرحمنا منها، وأن يهبنا مائة (أحمد خالد توفيق) آخرين، أو ألف، لعل الحال ينصلح، ويعود الناس للقراءة والمعرفة والخيال والعلم والفن.
إن أدب "الشباب-البالغين" أو YA وهي اختصار لـ young adults . هذا الأدب هو أدب من هُم أكبر من أن يكونوا أطفالًا، إلا أنّ المجتمع ما زال يعتبرهم غير بالغين، وهي نفس الفئة التي قامت بأعظم ثورة في التاريخ بالمناسبة، ثورة 25 يناير. وكانت جائزة (ميخائيل برينتز) The Michael L. Printz Award أوّل جائزة عالميّة تتخصّص بشكل حصريّ بفئة أدب الشباب، فتمنح للكتابة الموجهة للمراهقين أو ما يطلق عليهم في العالم الغربي Teens، وجرى منحها أوّل مرّة عام 2000، من أجل دفع تطوير هذا الأدب. فهل سنظل منعزلين عن الشباب إلى الأبد؟ لماذا تعتبر (أجاثا كريستي) أعظم كاتبة في التاريخ؟ ببساطة لأنها كتبت الألغاز للشباب.
لماذا نكتب عن أدب الرعب والديستوبيا للشباب؟ لأننا نكتب أدبا ثوريا نضاليا، يبحث عن العدالة الإجتماعية بتسليط الضوء على الأشرار والفاسدين والوحوش ومصاصي الدماء.
أدب الناشئة الثوري يجنح نحو التمركز في الديستوبيا (Dystopia)، أو أدب المدينة الفاسدة (بعكس المدينة الفاضلة) لأنه يتطرق بشكل عام (وبوضوح) إلى العدل الاجتماعيّ والنقد السياسيّ تجاه السلطة، بواسطة بناء عالم جديد وواقع أكثر تتقدّمًا من واقع هذا العالم، وهو يتمثل في المستقبل البعيد، أو في عالم مُوازٍ. أحد أشهر أدباء هذا النوع هو جورج أورويل في نصوصه الأزليّة، "1984" و"مزرعة الحيوان"؛ لهذا كان الدكتور مؤيدا للثورة لكنه أدرك مبكرا أن إجهضاها بنضال مضاد سيكون هو الغالب. كان رحمه الله قريبا منا يكتب لنا وعنا ومعنا ومن أجلنا، وكان صادقا، لهذا لا يستطيع المتكلمون عنه الآن وصف أدبه جيدا، لن يتمكنوا من توضيح علاقته المنصهرة بنا، ليس لأنهم لا يعرفونها، بل لأنهم لا يجدون الآلية التي يشرحونه بها لمن هم خارج علمنا، هؤلاء الذين كفوا منذ زمن عن الخروج من القوالب الفكرية الجامدة، والخروج عن النفاق ولافتات التأييد.
أنا شخصيا أصنع في رواياتي الحالية والقادمة عالما فانتازيا هو نموذج للعالم الخرب، وهذه الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة، عالم بأسره نجح في استقطاب شباب العالم القارئ لإدمانه، ونجح عبر سلاسل عالمية فريدة وشائقة ورائقة، من الروايات مثل "مباريات الجوع" (The Hunger Games) و"عداء المتاهة" (The Maze Runner) و"الملكة الحمراء" (Red Queen) و"مختلفة" (Divergent) تحولت كلها تقريبا لسلاسل أفلام خلابة.
إن استمرار ابتعاد النقاد عن تعريف المجتمع بأدب الناشئة، وحثه على اشباع العقل به، وتشجيع البرامج على تناوله والترويج له، ومطالبة المؤسسات الحكومية والخاصة بتمويل الجوائز له، هو في صالح ميل بعض الشباب للجهل والتطرف والجريمة والمساخر التي يشتكي منها هذا المجتمع، ويوصموا بها الجيل بعامة. 
رحم الله عرابنا وأستاذنا د. احمد خالد توفيق، وأعاننا على السير بسيرته الحسنة، ورزقنا حب الناس والثبات على المبدأ.

تعليقات

المشاركات الشائعة