استراحة محارب



استراحة محارب


كنت جديدًا، كقطٍ ذو عيون عمياء فتحت للتو على العالم الوقح، حديثًا، كشرنقةٍ كشفت عن فراشة وليدة تتثاءب، وفي هذا الصباح المبكر الجميل، وكعادتي عندما أستيقظ بمفردي وأهل الدار نائمين، قادتني قدماي الصغيرتان إلى المطبخ، لا أذكر الآن لماذا بالضبط، ولكن في الأغلب للشرب أو تناول بعض الكعك، حيث خيرات أمي تأبى إلا أن تملأ المكان سرورًا فينضح به طيبًا.
لكن كل خطط التسليات الصباحية قد تبخرت مع مرآي لهذه الأعجوبة الفريدة.
شئ غامض، كان منطويًا على نفسه، كخرقة بنية مكسوة بالريش. شئ كتمثال ساكن اندلع له فضولي، وأثار عجبي لمجرد أنني لم أدر كنهه، لم أتعرف عليه. وقتها اكتشفت أن مجرد عثوري على شئ غامض لهو أمر جدير بالاهتمام الأعظم، وأن التعرف على الغرائب والفانتازيات هو أهم محطات حياتي الفارقة.
بطبيعة الحال كان اللمس هو أداة المعرفة عند البشر، منذ مس أول رجل محروق الوجه النار بأنفه يتشممها، وسيظل اللمس مادامت الأصابع، فمددت يدي بمزيج من مشاعر اللهفة والخوف والفضول والخطر معًا، وقلبي يتواثب بإثارة غير عادية، كأن مطبخ دارنا قد صار أخطر مناطق العالم فجأة، وهي عادة الأطفال في الانفصال السريع عن الواقع الرتيب. لو كان هذا الشئ ناقة مما تقول عنها العرب (أفواهها مجاسها)، لاستغنيت عن لمسه لأن حركة فمه ستدل على أنه يأكل ويسمن، وبغير حاجة لفحصه وجسه للتاكد من صلاحيته، لكن المشكلة أنه لم يكن حتى أي حيوان معروف بالنسبة لي وقتها.
ولمسته لمسة رقيقة لكنها سريعة، بدت أشبه بدغدغة لطيفة، لهثت لها من فرط الإثارة، واهتز هو لها مرة واحدة ثم عاد لسكونه الوقور فوق ذلك المقعد، منكسًا رأسه مخفيا ملامح وجهه، كمذنب يقف أمام قديسه. ماذا يكون وجهه؟ لماذا هو حزين؟ من جاء به؟
ثم قررت أن لمستي التالية ستكون أكثر استكشافًا مهما كان الأمر، وهي مجازفة رهيبة، إذ قد يكون مخلوقًا مفترسًا، وجال في خاطري أنه الوطواط الذي أسمع عنه، أو ربما يكون فأرًا متوحشًا يتحين الفرصة لمشاركتي كعك أمي. وبثلاثة أصابع فقط من يدي اليمنى، قبضت عليه بلطف، باحثًا عن ملامحه على الأقل، فأنت سوف تستأنس بالصرصور نفسه لو علمت أنه صرصورًا وليس شيئًا مجهولًا من عالمٍ آخر، بينما قدماي متراجعتان متأهبتان للفرار، فلاحظت أنه مصاب في عنقه إصابة بليغة بالنسبة لحجمه الضئيل، ربما هي شظية أو طلقة - فلم يكن عندي خلفية كاملة عن البندقية الهوائية، وطلقات (الرش) المستخدمة آنذاك في صعيد (مصر) – وقبل أن أرفع وجهه كي أطالعه وألقي عليه التحية بشكل أكثر تعارفًا، وقع الانفجار.
انفجار من الحركات، كمهرج يقفز نحو وجهك من علبة المفاجآت، أو بالون يفرغ فيك باطنه من الهواء بشكل متعجل، طار معه هذا الشئ محلقًا في سماء المطبخ، وكأنه استيقظ بغتة لتصدمه لمستي البشرية، ومع سرعته البالغة راح يتخبط في كل شئ، الأخشاب والثلاجة والجدران، كما لو أن كل هذه الصدمات أهون عنده من تحرش بني البشر. كأنه غير مصمم على الطيران وسط الموجودات، إلا السماء الواسعة، والحقول الشاسعة، وبرغم هلعي الشديد، ومحاولتي الهرب مع كل هذا التحفز والتشوق، إلا أنني ابتسمت وأنا خائف، محاولا التطلع لوجهه، وقد بدا لي طائرًا أسطوريًا يحمل قنزعة مهيبة، أو تاجًا عظيمًا، أو عُرفًا شامخًا فوق رأسه، ومع سرعته وتخبطه، شعرت للحظة بنوع من الشفقة عليه، برغم خوفي الشديد منه، أو فزعي من حركته المفاجئة المتفاجئة، وعندما عثر على مساره من مدخل المطبخ، وجدتني أهرع محاولًا تتبعه، مفكرًا أنه شئ ثمين ما، وينبغي الحفاظ عليه، وقد يعاقبني أبي لو علم بأنني من تسببت في هلاكه أو هربه.
ولكنه كان في هذه اللحظة مقاتلًا، يفر بحياته بعد أن نجا في المرة الأولى من تلك الطلقة الغادرة، استطاع شق طريقه من المطبخ عبر الصالة وحتى غرفتي، عندما لاحظت متأخرًا أن الشرفة مفتوحة على مصراعيها، وهتفت به في يأس: "انتظر". ولكنه ألقى بنفسه في الشمس والهواء، إلى حيث حريته، وإلى حيث حياة جديد.
عندما جاء والدي من مشواره، قصصت عليه القصة، فقال لي أنه طائر الهدهد وأنه وجده مصابًا يحتضر بينما يحضر لنا طعام الإفطار، فأشفق عليه وأحضره ريثما يعالجه، ولكن يبدو أن نشاطه قد ثاب إليه وارتحل من تلقاء نفسه بعد أن أفزعته أنا، وأقلقت عليه راحة المحارب، واستطرد مداعبًا: "رحل بكرامة".
وظللت أحمل الذكرى ليومنا هذا عبر الأعوام، وأنا أصر على أنني كلما أصبت أو تألمت أو جري إيذائي، فما علي سوى القيام بما فعله الهدهد، ومن ثم استئناف الحياة: القيام باستراحة محارب.

#من_قصص_طفولتي #حدث_بالفعل #هُدهد

تعليقات

المشاركات الشائعة