نحو فهم سليم الذوق للإبداع الأدبي




كنت في لقاء شبابي أعقب ندوة أدبية بوسط البلد، ناقشت (الروح الثامنة) الرواية الأولى للأديبة والصحفية الصديقة (نرمين يسر)، وفي خضم تناولنا لأوضاع الكتاب الشباب والقراء، تساءل بعض الحضور بجدية ويأس
- " نسقط ضحية اختيارات لأغلفة لامعة وعناوين براقة، ثم نفاجأ برداءة المحتوى وركاكة الأسلوب؛ كيف يحدد القارئ الإختيار الأصوب وسط الروايات الكثيرة؟ كيف يكون أريبًا فطنًا وافر اللب؟ كيف السبيل الى هذا الأمر؟ "
ولقد نوهت إلى الحل من وجهة نظري المتواضعة بكلمات محدودة، فأشار عليّ الأديب الصديق (محمد عبد القوي مصيلحي)، بضرورة كتابة مقال حول الأمر، إذ أن الأزمة عمومية وقد استشرت..



بداية وحتى يـتم تحقيـق المتعـة والفائـدة المرجـوة مـن قراءة الرواية، لابـد مـن صـقل الـذوق الأدبـي عنـد القارئ، فالتذوق يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى مـا يمتلكـه مـن ثقافـة، وهـذا يلقـي علـى المـدرسة مـسؤولية تثقيف الدارسين وتوسيع الرؤية أمامـه، فينـضج الـذوق علـى نحـو يمكنـه مـن التمييز بين النـصوص الأدبية وتذوقها وفهمها.. لهذا كانت الأجيال السابقة أكثر تذوقًا، عندما أتيحت لهم حصة (التذوق الأدبي)، ضمن حصص مادة اللغة العربية والبلاغة وهي الحصة الغير موجودة حاليًا..

وفهم النص وإدارك أسرار وجمال اللغة هو مفتاح التذوق الأدبي والفني، والإحساس بالجمال لا يناسب معظم قراء الوجبات السريعة وعصر المواقع الإجتماعية إن القارئ المتذوق يكون هو نفسه مبدعًا في أعماق حقيقته، إذ يتنسم عبق الخيال ويغتسل برذاذ البلاغة، مبدع يحلق بجناحين ذهبيين يشكلان هذا التذوق، وهما التحليل والنقد.. فأنت تحلل عناصر العمل الأدبي، ثم تنقد النص، وذلك وفقًا لعقد موازنات محددة، مثل مستوى الروائي نفسه بين نص وآخر، فإن كنت أول مرة تقرأ له، وقررت أن عمله سيئ، فربما يكون نقدك غير صحيح، لأنك لم تقرأ مثلا عملا سابقًا له، يدل على أنه تطور ولم يتأخر..
ومثل المقارنة بين الكاتب وأحد نظراؤه في نوعية الكتابة، فأنت تظلم كاتب الـ pop art / الكتابة الشعبية التجارية مثلًا، بمقارنته مع أحد أدباء الأدب الكلاسيكي.. وإن كنت منحاز للفن الأول فأنت تظلم الثاني في نفس المقارنة، وإنما يكون التقارن من جنس النوعية الكتابية..

لابد أن تعود حصص المطالعة والقراءة الحرة، ثم المناقشة الهادئة لهذه القراءات، ولكن عودتها تكون على مقياس الحوار، لا أسلوب المحفوظات الجاف.. هذا وحده يصنع جيلا قويا من القراء ذوي الإربة والحصافة والجزالة، قادرين على إفراز قراء فطاحل، يميزون الغث من السمين. قال (بورخيس) الأديب العالمي على سبيل الفخر الحقيقي لا التواضع: "أنا قارئ فطحل".. وهذا يعني أن القارئ القوي هو غاية المُنى بالنسبة للمثقفين، وغاية الألقاب للمتفكرين، وعلى جانب آخر هو خطوة أولى في سلم آخر طويل على طريق الأدباء..

فلا يكفي أن تكون قارئًا قويًا كي تكون كاتبًا أديبًا صحيح الديباجة، من أجرى الكتاب قريحة.. وهي كارثة الكوارث التي تسببت في ظهور عشرات الكتاب الشباب الغير مؤهلين، حتى اختلط الحابل بالنابل عند القارئ المستجد محدود الإمكانيات والوقت، فلم يعد يدري أي منهم أحق بشراء كتاب له، وتضييع الساعات للقراءة قبل إكتشاف قوته من ضعفه وركاكته.. كارثة نجمت عن ظهور جيل جديد من القراء تربى على فئة الـ pop art السلسلة، دون أن يتبحر للأدب العالمي، أو تهبه المرحلة الثانوية إحساسًا جماليًا بالنص الأدبي.. وحتى هذا لا ألقي فيه باللوم على هذه الفئة المشوقة أو على القارئ الشاب، بل على طرائق ومناهج تعليم الأدب والنصوص نفسها، التي أكد كل خبراء التربية والتعليم أنها تشجع على الحفظ والتلقين الممل، وتعيق نمو الإبداع، بدلا من أن تعمل على التفكير وإثارة المناقشات الحماسية الملهبة للخيال والمنشطة للذكاء، المحببة للبلاغة.. وأعتقد صدقًا أن إعاقة عملية تنمية التفكير لدى طلبة وتلاميذ مدارسنا في (مصر)، والناتجة عن هذه الطرق التقليدية في التدريس، هي جريمة متكاملة الأركان تتآمر على عقول بناة الحاضر والغد..

لذا وعودة على ما سبق فهناك مرحلة وسطى شديدة الأهمية بين القراءة والإبداع، تبدأ فيها نهايات الإستيعاب الكلي للنصوص، وبدايات التجريب وإمساك القلم ووضع الأفكار، اسمها: (التفكير الإبداعي) وهي مجموعة مهارات قابلة للتعلم والتدريب، ولا تحتـاج إلـى مواهـب وقـدرات خاصة ينبغي توافرها لدى القارئ ليكون مبدعا في تفكيره، وتلك المهارات هي :
 الطلاقة وتعني: إنتاج أفكار عديدة حول مهمة معينة
والمرونـة وتعنـي : إنتـاج الأفكـار التـي تحـرك القارئ من مستوى معين من التفكير الى مستوى آخر
والأصالة و تعني : القدرة على إنتاج أفكار غيـر عاديـة لا يـستطيع الكثيـر مـن القراء إنتاجهـا، بمعنـى أنهـا أفكـار بعيـدة ذكية
والإفاضـة: وهـي القدرة على إضافة التفاصيل إلى فكرة أساسية ثم إنتاجها

بعد هذا نصل أخيرًا لمرحلة (الإبداع) والإنتاج الأدبي، وهي مرحلة تنقسم لثلاثة أنواع بدورها، الإبداع الذهني ككتابة قصة أو قصيدة أو رواية، والإبداع النوعي، ثم الإبداع العقلي العملي، وهو مزيج يساعد مثلا على إبتكار نظرية ووضعها موضع التطبيق العملي..

وقد جرى مؤخرًا سجالًا على شبكات التواصل، بين فريقين من فئتي الكتابة، الشعبية والتقليدية، يتمحور حول كسر مفاجئ لسد قديم بينهما، طال عهده حتى صارا في جزيرتين منعزلتين لا يعلم أحدهما شيئًا عن الآخر، خاصة بين الكتاب الجدد الذين ظهروا في العشرية الأخيرة، وهو سجال غير ذي جدوى.. إذ أن لكل فئة تيارها الهادر وجمهورها الغفير، خاصة فئة الكتابة الشعبية الشبابية، والتي تحقق في واقع الأمر مبيعات عالية عن الفئة الأخرى، ربما بسبب تقوقعها داخل تقنيات السرد الكلاسيكية ومدرسة الرمز الغير مجدية مع مناهج تعليم اللغة التي سبق وأن انتقدتها، رغم أن هذه الفئة التقليدية تسير على درب اللغة الممجد، والذي لا يمنح الخلود إلا للآثار الأدبية التي تنتقل من جيل لآخر بفضل الرسوخ على مركبة اللغة العابرة للأزمان، بثباتها وعراقتها..
ورأيي في هذا السجال العصري الذي نتج عن كسر الحواجز، أنه مفيد جدا في الواقع، إذ أنه سيسفر عن تطور حتمي لا محالة في الحياة الأدبية في (مصر)، وأنا على سبيل المثال سعيت للدمج بين الفئتين - ومازلت - بداخل نصوصي، بحيث أمزج بين القيمة الخالدة والمحتوى الحداثي، اللغة العتيدة والفكرة البراقة، الأصالة والعصرية..

وهذا وحده ما سيجلب النفع على طرفي المعادلة، الكاتب والقارئ.. فلا يصطدم فريقا الكتابة، ولا يتشتت القارئ الحائر..



بقلم/ عصام منصور

تعليقات

المشاركات الشائعة