أول مقالاتي بجريدة (المقال)

بين الخمسات والخمس وعشرينات


ما مدى الهلع الذي ينتاب (أوباما)، كلما ذكرت أمامه، فكرة مشاركة قوات بلاده في مهام قتالية بـ (العراق)؟
لا ريب أنه مدىً بعيدًا ستشحب له بشرته السمراء، خاصة مع العمليات الإرهابية اليومية في هذا البلد المنكوب، والتي تشبه فانتازيا فيلم (ألف مبروك)، حيث كل شئ يعاد مرارًا وتكرارًا بلا نهاية. انفجارات السيارات المفخخة والانتحاريين تعمل بلا انقطاع. كلما تم تحرير بلدة أو شارع، تعود إليه القوات لتحريره بعد فترة قصيرة، وتخسر المزيد من الجنود، وهكذا دواليك..
ولا شئ يؤكد هذه العبثية، والرعب الذي يكنه الأمريكيين تجاه المسلحين المتأسلمين، أكثر من رواية (مايكل بيتري) الجديدة:
(الخمسات والخمس وعشريناتFives and Twenty-Fives ) الصادرة في أغسطس الماضي، والتي تصور ذعر فصيلة الملازم (دونوفان)، المكلفة بفحص الطرق السريعة بمحافظة (الأنبار) غرب (العراق)، وهي المحافظة التي كانت حاضنة للدواعش، ووقوف قافلة الفصيلة أمام كل حفرة تلحظها، والتي تعد بمثابة عبوة ناسفة محتملة؛ لتأمينها، والخلاص من شرها..


وفي كل مرة تقف مركبة الجنود، يتم عمل مسح بصري دقيق، لمساحة خمسة أمتار حول الناقلة من جميع الإتجاهات، ثم يهبط أحد الجنود، ليقوم بنفسه بعمل مسح آخر لمسافة 25 متر بجهاز لكشف المعادن، حيث يكون عرضة للنسف في أي وقت، ومن ثم يتقرر إرسال إنسان آلي لتطهير المكان المفخخ.. وهكذا يتكرر نفس الرعب في كل خمسة أمتار لصيقة، وفي كل خمسة وعشرين مترًا محيطة من التمشيطات اللانهائية.. يقول (بيتري) على لسان بطله: " العيون تزحف علينا، أعلم. تتحدد الأبعاد. تتحضر قذائف الهاون. نبدو فوق عدسات بنادق القنص. في كل شبر من هذا الموضع.. كل ذرة رمال، تكافح لقتلنا "..
يذكر أن (بيتري) نفسه انضم لمشاة البحرية (مارينز)، وذهب إلى (العراق) مرتين؛ لذا فإن كانت الأحداث خيالية، إلا أن ردود الأفعال والمشاعر حقيقية تمامًا، من واقع خبرته الشخصية، مما منح روايته الخيالية العسكرية أعلى تقييم مِن كل مَن قرأها حتى الآن.. بعد تناغمهم مع أبطالها الملازم (دونوفان)، فتى كلية الجنوب، الذي بدا وكأنه أخطأ طريقه إلى المارينز، والمسعف د. (بليزانت) الذي شاهد الكثيرين يلقون حتفهم أمام بصره، حتى لجأ للمخدرات، والنجم الحقيقي للرواية الطالب العراقي (كاتب)، والذي يعمل كمترجم للجيش الأمريكي، وله خلفية ثقافية أمريكية بحتة، لا تتعارض مع مقته لما يفعله الأمريكيون ببلاده، فهو يحب (مارك توين)*، وفرقة (ميتاليكا)*، لذا يمنحونه لقب سهل النطق مثل (دودج)، ذلك الطراز من السيارات القوية..
الأهمية الحقيقية التي نراها في نص السيد (بيتري)، ليس مجرد وصف المجازر اليومية التي ألمت ببلاد الرافدين، بل إبرازه بصراحة لعدم تحقيق الحكومة الأمريكية وعدها، سواء للحفاظ على حياة الأمريكيين أو العراقيين العاديين أنفسهم.. وهو ما يشهد عليه العالم بأكمله، منذ أن غزا اليانكي* بلاد ما بين النهرين سنة 2003 بحجة (جلب الديمقراطية إلى العراق) !
وما حدث، أن الفراغ الناشئ عن رحيل نظام (صدام) الشمولي، لم يستطع الأمريكان وحلفائهم سد رتقه، بل راحت الدولة البترولية تتفسخ بسرعة متزايدة، وصارت مفرخة للتنظيمات الإرهابية على كل شكلٍ ولون، حتى أن تنظيمي (القاعدة) و(داعش) انتعشا بشكل رهيب، وانطلقا من الأراضي العراقية للسيطرة على أراضٍ سورية ويمنية وليبية.. وقريبًا ربما يكتب السيد (بيتري) رواية عن سقوط الإسلام نفسه، بعد كل هذا التشويه الذاتي، والتناحر العربي العربي.. فنحن بأيدينا قد قدمنا لكارهي كل ما هو عربي أو اسلامي، كل ما يعبر عن جهلنا وتردينا العلمي والثقافي والديني، بعد أن عمَت علينا وجوه الرشد، واستبهمت علينا معالم القصد..

هامش
-       مارك توين: ( 1835-1910 ) كاتب أمريكي ساخر، عرف بروايته (مغامرات هكلبيري فين)، التي وصفت بأنها "الرواية الأمريكية العظيمة". لقبه (وليام فوكنر) بـ (أبي الأدب الأمريكي).
-       ميتاليكا: فرقة موسيقى الهيفي ميتال الأمريكية، التي أسست سنة 1981 في لوس أنجليس، كاليفورنيا. أحرزت الفرقة تسع جوائز غرامي وحققت مبيعات تقدر بـ100 مليون ألبوم في جميع أنحاء العالم، من بينها 57 مليونا في الولايات المتحدة وحدها.
-       اليانكي: (Yankee)  مصطلح يستعمل في (بريطانيا) للإشارة إلى سكان الولايات المتحدة الأمريكية، ويستعمل داخل الولايات للإشارة إلى الأمريكيين الشماليين، وأصل الكلمة الأسكتلندي يعني (المرأة النشيطة) !


نشر بجريدة (المقال) في العدد الحادي عشر يوم 19 فبراير الخميس 2015

عصام منصور

فبراير 2015

تعليقات

المشاركات الشائعة