عزازيل .. (هيبا) يسيطر على عقلك



لا توجد رواية يمكنك أن تقرأها إلا و تترك بك أثر من ثلاثة :
1- تحبها و تعلق بذاكرتك و يحتويها عقلك.
2- تكون بين بين و قد تعلق بذاكرتك و يحتويها عقلك.
3- تكرهها و لا تعلق بذاكرتك و يحتويها عقلك.

لكن مع (عزازيل) اكتشفت نوع رابع من التأثيرات لم أتخيل يوما أن يكون برواية : أن تحتوى الرواية نفسها عقلك و ليس العكس !

(عزازيل) الرواية الصادرة عن دار (الشروق) بالعام 2008 للدكتور (يوسف زيدان) أستاذى الذى اتخذته نموذج للروائى بعد أستاذى السابق دكتور (نبيل فاروق)، رواية لم يكتبها روائى بالدرجة الأولى إنما خبير مخطوطات بالأساس يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف فى مجال التاريخ، و (زيدان) بشكل عام كاتب عالمى فى مجال التصوف و الفكر الإسلامى و التاريخ العربى و الطب العربى ..




أثارت الرواية أسئلة و ضجة كبيرة فى أرجاء الكنيسة المصرية بسبب تعمقها وراء تأويلات و أفكار تمس أكبر الصراعات الكنسية الأولية، و فى جزء من تلك الأسئلة اللانهائية يقول (هيبا) الذى يسرد لنا مذكراته و ماجرى له بإيعاز من (عزازيل) شخصياً:
باليونانية التى قلما يستعملها الناسُ فى تلك البلاد، قال لى من غير تمهيدٍ، ما معناه: كيف جاءت العذراءُ إلى هنا هاربةً بوليدها، بعد سنوات من وفاة الحاكم الذى تزعمون أنه كان يقتل أطفال اليهود ؟ ولماذا عادت به إلى البلاد القاحلة الصفراء ، بعدما جاءت إلى وادى مصر الأخضر ؟.. قال ذلك بهدوءٍ ماكر، ثم انحرف عن طريق الجماعة العائدة إلى أسيوط، فاتخذ سبيلاً إلى جهة الشمال الشرقى ، وتوغل بين الحقول وأجمَّة الغاب المتناثرة، حتى غاب عن ناظرىَّ .. )


و صدرت دراسات و كتب كاملة للرد على الرواية أو الثناء عليها و تأييدها و دعمها و كلها تنبئ عن أن احتلال (هيبا) لعقلى الأدبى لم يكن من فراغ و لم يكن عن مبالغة غير واقعية أو موجودة، فأنت تجد فى (هيبا) الذى هو بالضرورة خلفية ذهنية واسعة لـ(زيدان) نفسه و عقله الفكرى، تجد فيه الفيلسوف و الديّن و العلمى و المؤرخ و تجد فيه العاشق الوله و الساخر المنتقد و العولمى حتى .. (هيبا) الراهب المصرى الصعيدى الأصل الذى تتبع أصول الديانة المسيحية فى (أورشليم) القديمة منطلقا من (اسكندرية) مدينة العاهرات والذهب حينها، مستسلما لنزواته الجنسية و الشيطانية ثم الآلهية و التعبدية هو الإنسان بكل طموحاته و خطاياه و عبقريته و صغائره .. هو الإنسان الساقط من جنة البراءة الى حظيرة المكر و تأويلات التاريخ اللانهائية و تقديس ما لا يجب تقديسه و إهمال ما يجب تقديسه ..


يقول (هيبا) العلمانى الذى اضطرته الظروف الى التخلى عن الشكل الدينى له كراهب لدى دخوله (الإسكندرية) : ( قلتُ فى نفسى: لابأس، سأدخل المدينة فى صورتى الأصلية، إنسانٌ تعيسٌ من جنوب الوادى، كان أبوه يصطاد أسماك النيل، ويتجنَّب التماسيح وأفراس النهر . أنا من هؤلاء الذين يملأون المكان من حولى . ولن يحمينى إلا أن أندسَّ بين خراف الرَّبِّ و ألوذ بهم. )

و يقول (هيبا) الناقد الساخر ما سمعه من فلاح يفند ببساطة استحالة حب الأعداء من وجهة نظره : ( بالقرب منى، همس فلاحٌ خبيثُ النظرات لمن حوله، بسخريةِ الخراف الضالة: وهل يحب سيدُه كِيرُلُّس، إخوانه اليهود؟ ضحك المحيطون به بتكتُّمٍ، وأضاف أحدهم: طبعاً، كِيرُلُّس يحبهم إلى درجة موتهم وطَرْدهم خارج الأسوار .. لم يلتفت القَسّ أجشُّ الصوت ناحيتهم، لعله لم يسمعهم، أو هو لا يسمع إلا ما يحفظه ويتلوه على الناس كل ليلة. أكملَ خطبته الزاعقة التى انتزعتنى من دفين ذكرياتى، بأن قال ما معناه: يا أبناء الله، بيت الرب مفتوحٌ لكم. فتعالوا للكنيسة صبيحة الأحد، واحصلوا على البركة. أقبلوا حتى يُقبل عليكم ربكم، وتكونوا مع الرُّسُل والقدِّيسين والشهداء .  )

و (هيبا) المشوش الشاهد على وحشية المسيحيين فى (اسكندرية) ضد من اسمها فى نصفه الأول هو اسمه (هيباتيا) العالمة و المحاضرة و المتعاطف معها يقول: ( الذئابُ انتزعوا الحبل من يد بطرس وهم يتصايحون ، وجَرُّوا هيباتيا بعد ما صارت قطعةً، بل قطعاً، من اللحم الأحمر المتهرِّئ . عند بوابة المعبد المهجور الذى بطرف الحىِّ الملكى البرخيون ألقوها فوق كومةٍ كبيرة من قطع الخشب، وبعدما صارت جثةً هامدة .. ثم .. أشعلوا النار .. علا اللهبُ، وتتطاير الشرر .. وسكتت صرخاتُ هيباتيا، بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم، عنانَ السماء . عنانَ السماء، حيث كان الله والملائكة والشيطان يشاهدون ما يجرى ولايفعلان شيئاً .
-هيبا .. ما هذا الذى تكتبه ؟
-اسكتْ يا عزازيل ، اسكتْ يا ملعون . )

صار على بعد انتهائى من الرواية أن أغوص فى كل ما رأيته أو أرتنيه اياه..فى كل ما خيّل الىّ..فى كل ما قرأته وعشته مع (هيبا) وشهدت معه على حدوثه..صار على -بل توجب- التفكير فى المسكوت عنه وطرح مزيد من الأسئلة وعيش الماضى واسقاط ظلاله على الحاضر..اسقاط التشدد و الجهل و الغل و الغباء وأطماع السلطة وفساد السياسة على الآن..

كان (هيبا) من طراز لا يمكنك تجاهل سيطرته على عقليتك النقدية وأفكارك عن الكون و الحياة والموت والإله والمقدس والخطأ والصواب..وكان علىّ أن أعطيه حقاً من حقوقه بعد أن سيطر على عقلى، وهو أن أشير اليه ولو قليلا هنا على صفحات بيتى الصغير هذا.. 

* * *


فى منتصف ليلة الإثنين 5 ديسمبر علق د. (يوسف زيدان) على المقالة قائلا:
- مقالة دافئة الكلمات . . لمثل هذا الإنسان ، أكتب.

وهذا من قبيل تواضعه الجم واريحيته مع تلامذته المجهولين أمثال العبد لله، فله الشكر ولنا العزم والإنطلاق والنشوة والحماس ..
وذاك رابط التعليق وافر البساطة و الهدوء على صفحة الأستاذ الشخصية بموقع Facebook :
http://www.facebook.com/youssef.ziedan/posts/334428816570541




تعليقات

المشاركات الشائعة