جين الرب
جين الرَّب
جرت أعين ( زكريا ) سريعا على أسطر بيان الإعدام ضمن إحدى
فقرات الدستور ، و الذى يحدد حق المحكوم عليه بالإعدام فى الدفاع عن نفسه دون أن
يلزم هذا المحكمة بشئ، كما يشرح البيان طبيعة جهاز الإعدام الرحيم الآلى ، حيث
يتيح المكان رؤية طبيعية رائعة المنظر للسماء و الحدائق الخارجية ، لكن بتأمين تام
فى نفس الوقت بحيث لا يمكن لأى طائرة أو شئ خارجى رؤية عملية الإعدام الرحيم ،
أيضا يصف البيان جهاز الإعدام و هو عبارة عن كبسولة نصف شفافة تقيد المحكوم عليه
بداخلها جيدا ، بينما يتسرب لحظة الموت غاز مخادع ، يمنح المحكوم عليه راحة و نشوة
استثنائيتان ، بينما يدمر فى الوقت ذاته خلايا المخ بسرعة كبيرة ، فيموت المرء دون
حتى أن يدرك هذا ..
و ذابت الأسطر الثلاثية الأبعاد المبثوثة أمام بصر (
زكريا ) ، لتتسع عيناه فى ذعر كبير و هلع ما بعده هلع ، و ذلك مع بدء تلاوة النصوص
المقدسة المشتقة من كتاب سماوى واحد ، أما سر هلعه المتصاعد أنه كان بداخل كبسولة
من تلك الكبسولات ، فمن مراحل عملية الإعدام التعريف بالسند القانونى قبل بدء
الإعدام ..
إعدامه ..
و بنظرة مذعورة للغاية من موقعه ، رمى ( زكريا ) بصره
نحو النافذة المرتفعة التى تنقل اليه مشهدا مثيرا خارج المبنى ، تنقل معركة كاملة
بين جحافل من البشر الذين يحاولون اقتحام المبنى الذى يحتجزه ، معركة دموية للغاية
حيث كلما تقدم فوج من الإنتحاريين ، أطلق عليهم وابل من نيران ساحقة تبيدهم عن
بكرة أبيهم ، و رغم ذلك فأقرانهم يتخطونهم و يدوسون على جثثهم بالأقدام متجاسرين
بعنصر الكثرة ، و كأنما تحول كل هدفهم فى الحياة الى اقتحام ذلك المبنى ..
مبنى ( القربان ) المنشأ أواخر خريف 2099 بعد سيطرة
النزعة الدينية المتشددة لإحدى الديانات على أهل الأرض ، و انهيار العلمانية و
مبادئ الوجودية و الإلحاد ، خاصة بعد الإنهيار العظيم فى ثمانينات القرن ، الذى
سحق اقتصاديات السوق المفتوح و الرأسماليات التقليدية و نظم الإقراض ، المبنى الذى
تقرر فيه تقديم نوع معين من البشر كقربان للإله ..
و أسقط فى يدى ( زكريا ) الذى كان طوال عمره يلعن ذلك
الجين البشرى المكتشف و الذى أطلق عليه ( جين الرب ) ، و يحدد ميل الإنسان للإيمان
من عدمه ، و كان يضطر الى اعتناق الدين السماوى الإجبارى الوحيد فى النظام الجديد
، و يحيا هاربا من آلية الكشف الجينى الإلزامى ، التى عمم تطبيقها فى العالم كله
بعد إرساء قواعد كشف و توضيح خريطة الجينوم البشرى ، و بعد أن هبت رياح الحكم
الدينى الخالص ، لكن ما إن سقط ( زكريا ) حتى تم إجباره على الكشف ..
و رغم أن دين آبائه الأصلى كان دين سماوى آخر ، إلا أن
نتيجة جين الرب الخاص به كانت إيجابية ..
و تم إعلانه و وصمه كافرا و يجب تطبيق الإعدام الرحيم
عليه ..
لكن ثورات المشككين فى حتمية صحة جين الرب ، و المعتمدة
على ادعاء فريق من العلماء يعتقد بتأثير عوامل أخرى على الجين ، وصلت الى ذروتها
بعد إعدام سبعة آلاف هذا اليوم وحده ، آخرهم ( زكريا ) ..
و تعلقت أعين الأخير ملهوفة بالمعارك أو بمعنى أدق
بالمذابح التى تجرى على قيد خطوة منه ، و النصوص المقدسة الإلكترونية تصل الى
نهايتها ، بينما أصوات المعارك تقترب من غرفة الإعدام داخل المبنى ..
لم يكن يعلق أمله على المقتحمين و لا لهفته على سرعتهم
فى نجدته ، بل على قدرة الخالق فى إيقاف سفك المزيد من الدماء قبل سيطرة المحتشدين
الدهماء ، حتى و لو فات الأوان بالنسبة له ..
فهو سيلقى ربه بصفحة طاهرة و نفس صادقة مطمئنة ، أما
خوفه و فزعه فكان لما آلت اليه البشرية ، و بقى السؤال : هل سيتوقف إهراق الدم
يوما ؟
هل ؟
تمت
بقلم / عصام منصور
30 أكتوبر 2010
تعليقات