سيارة صغيرة

 



سيارة صغيرة فى الليل ..

و دعوة لأمسية عما يسمى بشعر الرعب ، بدلا من قصص الرعب ..

الوحدة تلف روحى فى سكون قاتل ..

لكنه قتل من نوع استلذ به كماسوشى يمكنه تلقى الألم بنوع من الرغبة و الترحيب ..

« السيد ( عصام أحمد ) .. يشرف جماعة ( أدب الرعب ) دعوة سيادتكم لمشاركتنا أمسيتنا الثالثة حول صنوف أدب الرعب ، و تدور الليلة حول شعر الرعب ..

مؤسسة الجماعة ( سالى محمد ) » ..

هكذا سطر على الدعوة ببنط وسط مائل ..

طالما لم أتخلص من الوحدة فلأذهب ..

أقود سيارتى الصغيرة السوداء ، و أنا ألقى نظرة جديدة على صورتها ..

زوجتى ( يارا ) ..

خلافنا الأخير هو سبب وحدتى بعدما رحلت ، لم أبغى تطوير مشاجرتنا التى لا تختلف عن اخواتها من المشاجرات اليومية ، و لكن أعصابى أفلتت منى لأول مرة و تهجمت عليها .. فرحلت و تركتنى وحيدا ..

صعدت درجات سلم البناية ذات الطابقين الناعسين فوق بعضهما ، و أنا أحصى درجات سلم حياتى المتهالكة ، و التى لم أصل فيها الى ما أردته بعد ..







رحبوا بى بنظرة صامتة كما لو أنهم جميعا يعانون من نغس الوحدة و الإكتئاب .. فاتخذت مقعدى بينهم شاعرا أنها أشبه بجلسات العلاج النفسى الجماعى ، لكنهم لحسن الحظ لم يخرجوا مكنونات أنفسهم إلا شعرا ..

« ينسكب دمى أسودا .. فيلطخ شعرى الأشقر

أعدل عنقى المكسور .. متذكرة عمرى الأغبر » ..

كان هذا بيت من أبيات نظمتها قريحة ( سالى ) المعدة للأمسية ، و هى فتاة يبدو وجهها أصغر سناً من عقلها ..

« كيف أراكى فى المرآة .. و قد رحلتى متجيفة

كيف أسمعك بأذنى .. ترتلى آيات محرفة

كيف يا جثتى .. كيف أنال المعرفة » ..

و هذا كان ( علاء ) الشاب الممتلئ قليلا ذو العوينات ، و الذى يتحدث ببطء مخيف ثم يبتسم بخبث مفاجئ كل حين و آخر ..

« الكيان الأسود القديم .. كف عن الصراخ

كف عن الهزيم .. كف عن النواح

كف بعدما هشمنى .. و حطم الألواح » ..

كانت فتاة نحيلة ذات ضفائر ترتدى السواد قدمت نفسها باسم ( نهاد ) و لم أتذكر لها سوى هذا البيت ، بينما قال المدعو ( احمد ) فيما قال و هو شاب قوى الجسد مربع الوجه : « ليتنى أجد رأسى .. ليتنى أجد عقلى

ليتنى أجد كيانى .. و أكفف دمع مقلى » ..

كان الشعر مقبضا منفرا مثيرا لمزيد من الكآبة و ضيق الروح ، لكنى تناغمت معه بشكل ما ، و بينما أهبط درجات سلم البناية المتهالكة ، شممت رائحتها ..

( يارا ) ..

كان نسيمها ..

أقسم على هذا ..

لكن .. هذا حلم يقظة لا ريب ..

عقلى الباطن يتشوق لتذوق رائحة شعرها الأشبه بمزيج من الزيت و النعناع ..

يتشوق للمس بشرتها الأشبه ببشرة مؤخرة طفل ناعمة ..

تركت البناية و قد تضايقت من تذكر زوجتى بهذا الوضوح ، أكثر من ضيقى من الشعر ..

بل كان الشعر بوابة دخلت منها الى عالم من المعذبين ، و عندما رأيت فيه بلاء غيرى هان على بلائى ..

ولجت سيارتى الصغيرة التى ضحكت لرؤياى ، رغم أن صوت ضحكتها انبعث من أسفل غطاء المحرك خشنا فظا ، و عدت الى الطريق و عاد الطريق الى ..

بحثت عن شرائط فى الظلام الذى يغلفنى و يغلف من الخارج السيارة التى فسد أحد مصباحيها الأماميين ، فكانت الشرائط تفر منى فى ازدراء ، لكنى قبضت على أحدها عنوة ، و دسسته فى فم جهاز الإستماع قسراً ، فازدرده الجهاز بصعوبة ثم أخرج اعترافاته بصوت ( فيروز ) .. ( أمس انتهينا ) ..

حاولت ( فيروز ) تغيير حالتى لكن كل إقناعاتها الحالمة فشلت ، و زاد الطين بلة ذلك الحادث الذى جعلنى أسكتها بنفسى معتذرا ..

توقفت فى بطء مع سرعتى القليلة ، و هبطت وسط الهرج و المرج الذى بدا كأنه اخترق مشهد الطريق الخالى اختراقا ، و رجال الإسعاف يهرولون من حولى كالذباب ، فهششتهم ، و تقدمت أكثر لألقى نظرة فضولية على المصاب ..

كانت أنثى شقراء و قد لطخ دمها المتخثر شعرها الجميل ، و ..!

لكنى أعرف هذا الوجه ..

إنها ( سالى محمد ) ذاتها ..!

لكن .. لكن كيف ؟!

لقد تركتها منذ دقائق قليلة ، و كنت أول المغادرين من الأمسية ، كيف سبقتنى بسرعة كبيرة أدت لهذا الحادث البشع ..

ابتعدت عن نظرتها المتيبسة التى بدت و كأنها ترمقنى مباشرة فى غضب ، و ركبتى ترتطمان ببعضهما بفعل الحركة و الإرتجاف معاً ..

أدرت محركى المندهش و انطلقت فى صمت لم يفارقنى منذ ثلاثة أيام كاملة ..

و عادت ذكرى ( يارا ) تلح على عقلى ، عاد الخلاف الأخير يطرح نفسه بقوة كما لو كان يدعونى لمصالحتها لأستعيد كيانى ..

بعد ضربى لها لأول مرة منذ خمس أعوام من رباط الزواج ، ظلت طوال الثلاثة أيام الماضية صامتة ، صمت ثقيل بدا كسوط عقاب مباشر يهوى على لحمى ، و أنا أتمزق داخليا كذلك من عدم استطاعتى حثها على الكلام ، و إعادة الأمور كما كانت ..

كان الطريق الزراعى خاليا مغريا بالقيام بكل موبقات الأرض ..

و كأنما لم تحتمل الموبقات ذكر اسمها إلا و حلت أمامى ، فقد شاهدت هذان الملثمان يلقيان بالجوال بجوار الطريق ، و يفران بدراجتهما الآلية الحديثة معدومة اللوحات الأسرع من سيارتى الصغيرة ..

ما الذى بهذا الجوال ؟ ليس قمامة بالتأكيد ..

توقفت و ترجلت ..

كانت الأرض الزراعية المظلمة للغاية منخفضة عن الطريق الممهد بعشرين سنتيمتر أو أكثر قليلا ، و على ضوء مصباح سيارتى الوحيد هبطت من الطريق ، و فتحت الجوال .. و لهثت فى رعب رهيب ..

كانت جثة متجيفة له عينه ..

( علاء ) .. أحد مشاركى الأمسية ..

( يارا ) ..

شممت نسيمها فارتعدت فرائصى ، و تلفتت حولى كالمجنون لكن لا أحد حولى ، إلا هواء الليل البارد ، و حشرات الحقل المتحفزة ..

كان هو بمنظاره و جسمه الممتلئ قليلا ..

لكن كيف قتل و تحلل و قد تركته منذ قليل ؟!

هذا مستحيل ..!

هل كنت أتخيل الأمسية ؟!

لكن كيف ؟ الطريق و الساعة و عدادات المسافة و الوقود و كل شئ يوحى أننى عائد بالفعل من هناك ..

لا أحلام هنالك ..

عدت الى سيارتى الصغيرة قبل أن يتلبسنى جن الليل و يزيدنى خبالا .. و أدرت محركها المتوتر و تحركت ..

لكنى شاهد الآن على جريمة ، و لكن ما الذى بيدى أن أفعله ؟ و لماذا لا تبدو مقولة ( ليس لى شأن ) بهذا السوء ؟

و لماذا أرى صورة ( يارا ) فى مرآة السيارة الداخلية ، لحظة ضربى لها و أرى عيناى اللتان كانتا حمراوان وقتها ..

لفنى الصمت ..

الوحدة فى سيارتى الصغيرة ليست سيئة ، لكنها مؤلمة جداً الآن ..

مازال وجه ( يارا ) فى المرآة الداخلية ينظر لى بلوم و عتاب ..

أدرت عيناى الى تلك السيارة التى تجاوزتنى بسرعة صاروخية ، كأن قائدها قرر الإنتحار ببهجة الكون كله ..

أعدت عيناى الى المرآة ..

و انتصب شعر مؤخرة عنقى ..

مازالت تنظر الى ..

لكنها ليست زوجتى ..

التفتت بسرعة و أطلقت صيحة مذعورة مع مرآى لتلك الفتاة من الأمسية ( نهاد ) جالسة ورائى فى وداعة ، و لكن مع ذعرى الشديد دار المقود بعنف ، و انحدرت السيارة من فوق الطريق بقوة ..

من فوق العشرين سنتيمتر أو أكثر قليلا ..

و أنقلبت مرتين فى عنف قبل أن تنحشر فى قناة نحيلة ..

مسحت الدم حول عيناى لكن ظلت الرؤية مخيفة مصبوغة بالأحمر ، و أنا أغادر سيارتى الصغيرة و أتلطخ بالطين فى القناة ..

استلقيت على ظهرى لأتأكد أننى على قيد الحياة ، و أنه لا كسور حديثة فى عمودى الفقرى .. فى العنق .. حسناً فى الحوض ..

لا بأس .. حادث مريع انضغط له نصف سيارتى الخلفى لكننى حى أرزق مصاب فى وجهى فقط ..

انضغط له .....؟!

نهضت ملتاعا و فتحت الباب الخلفى فى ارتياع ، لأنتشل الفتاة المسكينة المحاصرة ، و أنا أدعو خالقى أن أتمكن من إنقاذها و الدفاع عن مستقبلها الرهين برعونتى أو رعونتها لا فارق ، لكن الباب المشوه كان محشور كأنه من الورق المقوى المنثنى عشرات الثنيات ، فأدخلت نصف جسدى عبر الباب الأمامى ، و انحنيت عليها ، و ..!

ياللهول ..!

ياللمصيبة ..!

كانت ( نهاد ) قد انسحق نصفها العلوى ، بين السقف و الأرضية ، حتى أن لوحى كتفيها قد تحطما تماماً ، فأصبح منظرها مرعبا بعدما برز رأسها الدامى من جسد بلا عرض ..

و تقيأت و قد شكت معدتى فلم أستمع لشكواها مع جثة ( علاء ) ، و سمحت لها هذه المرة بالإعتراض ..

الى جوار سيارتى الصغيرة ..

خطوت فى بؤس و شقاء حتى عدت للطريق ..

شممت رائحة الزيت بالنعناع ..

لكنى أشحت بيدى لها كى تتركنى ..

ليس لى مزاج رائق الآن بعدما شهدت مصرع ثلاثة شباب مثل الورد .. فلتدورى أيتها الرائحة كما تشاءين و لتغزى أنفى و ثيابى المليئة بالدم و الطين .. كل ما أريده الآن سيارة تنقلنى بعيدا عن هذا الظلام و هذه الوحشة ..

و رأيت السيارة المنشودة ..

كانت تلك السيارة المجنونة التى مرقت من جوارى بلا مبالاة ، و لكن ..!

آه ..!

لقد كان انتحارا بالفعل ..

السيارة الحديثة مقتحمة لعمود إنارة ..

توجهت اليها بساقين متخاذلتين هذه المرة ، ساقين لا تريدان رؤية مزيد من الحوادث و الموت ..

كانت الرائحة تزداد قوة كلما اقتربت ، لكنى لم أعد أبال بغموضها الوقح حقا ، و أنا أفكر فى كيفية موت مشتركى الأمسية ..

أقترب و أفكر ..

أسمع صوت أزيز حذائى السمج من فرط الصمت ، و اسمع أفكارى معه تؤكد أن من كانوا معى أموات ..

نعم ..

هذا هو التفسير الوحيد ..

الآن إذن الدور على ذلك الفتى الذى يقال له ( احمد ) ..

مهلاً ..

أسأل أفكارى :

- هل هناك علاقة بين شعر الرعب الذى قالوه و طريقة موتهم ؟

فتلكزنى فى صدغى فى سخرية قائلة :

- أخيرا تنبهت يا أحمق ، أما تذكر شعر ( سالى ) : « ينسكب دمى أسود .. فيلطخ شعرى الأشقر

أعدل عنقى المكسور .. متذكرة عمرى الأغبر » ، لقد ماتت بدم يصبغ شعرها بالفعل ، و ( علاء ) قال : « كيف أراكى فى المرآة .. و قد رحلتى متجيفة

كيف أسمعك بأذنى .. ترتلى آيات محرفة

كيف يا جثتى .. كيف أنال المعرفة » ، و قد رأيت جثته المتجيفة بعينك ، أما ( نهاد ) قرضت قائلة : « الكيان الأسود القديم .. كف عن الصراخ

كف عن الهزيم .. كف عن النواح

كف بعدما هشمنى .. و حطم الألواح » ، و للأسف تحطمت ألواحها و اضلاعها بالفعل .

أبطأت خطواتى المقتربة ..

كان جسد ذلك الشاب ( احمد ) بالفعل منبطحا على بطنه فوق مقدم السيارة المدمر ، و قدميه عند عمود الإنارة .. و تحركت لأرى رأسه ، و بيته يرفرف فى مخيلتى ليجفف حلقى تماما ..

« ليتنى أجد رأسى .. ليتنى أجد عقلى

ليتنى أجد كيانى .. و أكفف دمع مقلى » ..

و تجمد الدم فى عروقى حتى الزرقة ..

كانت رأسه هناك على قمة مقعد القيادة ، و قد شحب وجهه تماما و هو ينظر الى ظهره ، بينما علقت الرأس فى حزام الأمان حتى انفصلت ..

و وصلت الرائحة لذروتها ..

ورائى بالضبط ..

و استدرت بذهول لأجدها ..

( يارا ) ورائى ..

تمسك بالهاتف الثقيل الذى ضربتها به و قد لوثته الدماء ، و تقول :

- لن تقابل أحياء بعد الآن .. كل من ستقابلهم سيكونون من الموتى ، الى أن تقضى نحبك من الخوف ، أو يتسببوا فى انتحارك .

كانت ضربتى لها فى تلك الليلة لأنها سبتنى ..

لم يسبنى أحد فلماذا فعلت هى ..؟

هل تحتقرنى ؟

لماذا كذلك أجرمت و عاندت و ماتت ؟!

لتدخلنى السجن ؟

ظللت ثلاثة أيام أنظر اليها ، و الى الهاتف الذى جفت عليه دماؤها ، و هى صامتة تغيظنى أكثر و أكثر ..

الآن جثتها هناك ..

الآن سأحيا فى لعنتها المتواصلة ..

أما الآن فجثتها هناك ..

فى سيارتى الصغيرة ..

 
* * *
 
بقلم / عصام منصور القاهرة 13 أكتوبر 2009

نشرت القصة فى العدد الثانى من مجلة ( مزاج مصر ) الإليكترونية

تعليقات

المشاركات الشائعة