ما حدث في رأس البر - قصة لـ عصام منصور

 


مقدمة :

 

« هيا يا ( وليد ) لا تستمع الى معاذير الفتيات الخاصة بأن الساعة تجاوزت منتصف الليل ، و بأن إقتحام المنزل يعاقب عليه القانون ، و أن - و هذا هو الأدهى و المثير للسخرية فى الآن ذاته - ربما يكون هناك قاتل أو شبح يتخذ الشاليه مقراً له ، لا تقل بالله عليك أنك خائف جبان معدوم الحيلة مثير للشفقة ! »

 

 

 

ما حدث فى ( رأس البر )

 

 

 

بجوار مدينة ( دمياط ) المصرية يقع شاطئ ( رأس البر ) الذى أصيف فيه هذا العام ، و كعادة الشباب لم أنم مبكراً تلك الليلة مثل العائلة المكونة من أبى أمى و شقيقى بالإعدادية و شقيقتى بالإبتدائية ، و ظللت ساهراً بشرفة الشاليه محاولاً الإستمتاع برائحة يود البحر ..

 

كانت العائلات متوسطة المستوى كمعظم أصدقائى ، تصيف من أسبوع الى عشرة أيام و ربما تحرك العدد يومين الى الوراء أو الى الأمام ، لذا فكنت أعتبر نفسى محظوظاً إذ سمحت المادية هذا العام ، أن أمكث أسبوعين بالتمام و الكمال .. بعد أسبوع جاف لم أتعرف فيه على أى أحد ، لم يصبنا فيه سوى أشد الملل ، خاصة مع إيقاف خدمة تأجير الدراجات المائية ، بعد إنتشال غريق و صديقته ، لم يزداد الطين بله ، إلا بإنتشار شائعة تفيد بأن الشاليه المهجور القريب ، صدرت منه صرخة رهيبة لفتاة تستنجد من الغرق .. و ذلك منذ يومين بالتحديد ..

 

طبعاً لم يسفر البحث عن شئ ، مجرد مسكن مهجور آخر تسكنه الفئران و تمرح به العناكب المنزلية ، و هذه الليلة بالذات أحس بملل مُقبض ، بعدما استنفذت كافة وسائل التسلية .. الشطرنج الذاتى أصابنى بسأم لا قبل لمخلوق به رغم عشقى للعبة ، القنوات الفضائية لم تعرض أفلاماً جديدة هذه الليلة ، الدورى الإنجليزى متوقف ، و طبعاً أنا أمقت البرامج و المسلسلات كـمقتى لـ ( مارى الدموية ) ، كذلك نفد رصيد هاتفى المحمول ، فعلمت بذكاء أننى لن أتعاطى أية أحاديث مع الرفاق ..

 

فى هذه الليلة كانت السماء مصابة بذلك الإحمرار الذى يجعلها تبدو موشكة على التقيؤ ، و يجعل روحك ذاتها موشكة على الرحيل من فرط اختناقها الملول .. و على الإنعكاس الأحمر ، استطعت أن ألمح الشاليه الخالى من آخر الشرفة ..

 

و راودتنى الفكرة ..

 

لما لا .. إنه جالس أمام البحر بلا حيلة ، يعانى من الوحدة ، و ينتظر أن يقضى أحدهم وقتاً ما فيه لفعل أى شئ ، عسى أن يسليه ..

 

هيا يا ( وليد ) لا تستمع الى معاذير الفتيات الخاصة بأن الساعة تجاوزت منتصف الليل ، و بأن إقتحام المنزل يعاقب عليه القانون ، و أن - و هذا هو الأدهى و المثير للسخرية فى الآن ذاته - ربما يكون هناك قاتل أو شبح يتخذ الشاليه مقراً له ، لا تقل بالله عليك أنك خائف جبان معدوم الحيلة مثير للشفقة !

 

هكذا التقطت حذاء البحر الخفيف ، و جهاز الموسيقى الخاص بى ، و كذلك زجاجة مياه غازية .. لنرى أى هاجس يحيط بالشاليه الخالى ، و لتكن جولة تفقدية مزيلة للملل ..

 

*    *    *

 

غادرت بخفة ، و حرصت على القيام بدورتين قبل دخول الشاليه ، و لاحظت أنه محاط من الخارج برمال أكثر ليونة ، تنغرس فيها القدم أعمق من الرمال الأخرى ، على أى حال انتقيت بقعة صالحة للقفز عبر السور ، تداريها شجرة بحيث لا يمكن أن يلمحنى أحد ما و أنا أعبر ، حتى وجدت نفسى بالداخل وجها لوجه أمام نافذة الشاليه المصنوعة من الخوص البدائى ، معتمدة على تأمين السور ..

 

و بقفزة واحدة تدربت عليها كثيراً أثناء تمارين كرة السلة ، تعلقت بالإفريز ، و غرست أصابعى بين شقائق الخوص لأجذب النافذة الى الخارج ، و بجهد كبير دفعت جسمى لأعبر من النافذة الى قلب الشاليه ، ثم أغلقتها من ورائى ..

 

كما توقعت انطلق فأر هنا يعدو مذعوراً لمرآى ، و توارى برص أخضر اللون هناك ، و بضربات خفيفة نفضت الأتربة العطنة التى علقت بى ، لأتأمل المكان على مزيج فريد من السماء المحمرة و قرص البدر ..

 

لم يكن الشاليه مجهز جيداً و كانت الأثاث القليل المغطى بالملاءات المهترئة يبدو كأشباح ميتة ، مما ينفى إحتمال أن هناك مجرمين يتخذون المكان سكناً ، و ينفى حتى أن يكون اللصوص أنفسهم قد زاروا المكان ، رغم وضعه المغرى للسرقة .. كان مستطيلاً ذو استقبال و صالة مفتوحين على بعضهما ، و الحمام و المطبخ الصغير مجاوران للباب .. الحق أنه مُقبض نوعاً ، يشعرك أن صاحبه سيخرج عليك فجأة ثائراً كالشياطين ، أو أنك - و هذا أسوأ لعمرى - مراقب من قبل عينان غاضبتان .. و همهمت لنفسى :

- لنرى ما حجم المشكلات التى يمكن أن تنشأ .

ثم أشعلت جهاز الموسيقى الصغير الحديث ، و تناولت المشروب محاولاً استهلاك الوقت ، على نغمات أغنية ( الهارد روك ) سريعة الإيقاع ، منخفضة الصوت التى يقول أحد مقاطعها : ( لا تبدأى فى ذلك الى أن أموت ..

لا تغادرى حياة قلبى ، إلى أن يفنى قلبى ..

لا تفعلى و إلا قتلتك ..

و قتلت قلبى )

و ذلك حتى تصل العصابة المزعومة أو دورية الشرطة ، لتبدأ مغامرتى الكبرى التى ستتلخص فى الهرب سالماً حتى مسكنى .. فقط ..

 

حاولت إرعاب نفسى بتذكر ( جروب مذكرات شبح شاب ) الذى أكتبه على موقع ( فيس بوك ) ، لكنها كانت محاولة مضحكة باءت بالفشل ، يبدو أن قضاء ليلة هنا أكثر مؤانسة من قضائها فى مدينة ملاه ، طاردت فأراً بديناً و ضحكت كثيراً عندما استطعت عرقلته ، ثم تفحصت جداراً حيث اشتبهت أنه يحوى أثر باهت كالظل لجسد ما ..

 

نعم إنه جسد يبدو أنه كان يفرد ذراعيه ، ملصقاً ظهره بالجدار ، و لا ريب أن هذا الظهر كان قذراً ليترك أثراً واضح الحدود كهذا .. وقفت أمام الجدار على يسارى النافذة ، و على يمينى الباب و فردت ذراعى محاولا تحديد حجم أثر ذلك الشخص بالنسبة لى ، عندما تحركت النافذة منفتحة ببطء بتأثير هواء البحر المنعش ، مظهرة ضوء القمر أكثر و أكثر ، فهمست مصطنعاً الخوف :

- ياللهول !

 

هكذا لم أولى ظهرى للعالم خلفى ، فألصقت ظهرى بذلك الظل ، لأواجه أية أشباح محتملة ، فهذا العالم أصبح مكتظاً بالأشباح و المسوخ كما تعلمون ، و أصبحت النافذة على يمينى حالياً ، بينما جاء فى خيالى أنه أثر لشخص أكثر ضآلة منى ، ربما أنثى .. ربما تلك الأنثى التى كانت تستنجد .. ضحكت هنا مع تطور محاولاتى لإرعابى بهذا الخاطر ، و مقطع أغنية ذلك المغنى الأمريكى يقول : ( ليتك انتظرتنى ..

ليتك توقفت عن الإستهزاء بى ..

الدماء لا تغرق إلا الآثمين ..

الضالين ..

ليتك لم تغادرى حياة قلبى حتى يفنى قلبى )

 

طبعاً تعجبت مع اختفاء الفئران التى كان الشاليه يكتظ بها ..

 

و بينما مازلت فارداً ذراعى طابعاً نفسى فوق الظل رأيت شيئاً غريباً ..

 

أو بالأحرى لم أرى شيئاً غريباً ..!

 

كان الجدار أمامى يحوى قطعتى أثاث ، واحدة طويلة لتعليق الثياب ، و الثانية قصيرة عليها قطعة خزفية رخيصة ، الآن لا يمكننى رؤيتهما بوضوح ، كما لو كنت أنظر اليهما عبر لوح زجاجى متعكر ، مما جعلنى أغمض عيناى بقوة و أعيد فتحهما ، و نبضات قلبى تتسارع لسبب غير مفهوم ، كما لو أن الغموض وحده سبب كاف للخوف ..

 

و كما لو أن قطاع طولى مفتوح أمامى مباشرة ، و مطل على عالم الوهم ، تيبست كالتماثيل الوثنية ، و عندما هززت رأسى مغمغماً :

- ماذا دهاك لترى ما هنالك ؟

 

و هممت بخفض ذراعى ، انطلقت تلك البلطة فجأة من ذلك المشهد الذى تظل الرؤية عنده فقط مبهمة ، مصحوبة بخوار عميق حاقد ، و اخترقت ذراعى الأيمن عند العضد ، لتمسمره فى الجدار ..

 

لم أشعر بالألم مباشرة ، مما جعل قلبى يسقط بين قدمى ، هذا معناه من خبرتى السابقة فى الألم أنه ألم حاد و مريع ، لن يلبث أن يجبرنى على الصراخ كالنساء ، و أول خاطر انتابنى أن أقبض على تلك البلطة و أنتزعها لأعيدها لمطلقها اللعين ! لكن البلطة الثانية شقت الهواء بصفير ثقيل ، و انغرست فى عضدى الأيسر لتصلبنى و تكبلنى ..

 

هنا شعرت ببعض الألم فأطلقت أنيناً خافتاً ، قائلاً بغضب :

- من هنا ؟!

 

تناهى الى مسامعى صوت مهيب ، فالتفتت الى يمينى بسرعة حيث النافذة ، لأرى شيئاً فاق تصورى و جعلنى أرفع حاجبى لأقصى مدى ، ناسياً تماماً البلطتين ..

*       *      *

 

( ليتك توقفت عن الإستهزاء بى ..

ليت تلك الليلة توقفت لأظل ألومك مدى العمر ..

ليت الدم أغرقنى بدلاً منك لترى كم كنت بشعة ..

ليتك لم تغادرى حياة قلبى حتى يفنى قلبى )

 

*       *      *

 

كان البحر كله قادماً نحوى ..

 

موجة مخيفة ارتفعت لتطال نصف صورة القمر ، و اتجهت بسرعة جشعة الى الشاليه ..

 

المثير للقشعريرة أنها حوت مئات بل آلاف البشريين .. و كان بعضهم عبارة عن رءوس مقطوعة حية ، مع اقتراب الموجة الكاسحة ، شاهدت برعب ملامحهم التى تعوى خوفاً ، خوف مخيف ، و رعب مثير للرعب .. و تخيلت - فى هلع - كل هذه الرءوس تحيط بى فى لجة و تتمسح بى قبل أن أغرق أنا ، هنا شعرت بألم اختراق البلطتين العاصر يعلن عن عنفوانه ، فصرخت بمزيج من الألم و الخوف :

- النجدة .. سأغرق .

 

تحركت الموجة أسرع ..

 

- سأقضى غرقاً .

 

ازداد ألم البلطتين المغروستين ..

 

- انقذونى .. سأموت .. سأموت بحق .

 

ازدادت ملامح الرعب على الوجوه الشاحبة المخيفة ، و .. !

 

*      *      *

 

( ليتك انتظرتنى ..

ليتك توقفت عن الإستهزاء بى ..

الدماء لا تغرق إلا الآثمين ..

الضالين ..

ليتك لم تغادرى حياة قلبى حتى يفنى قلبى )

 

*      *      *

 

ركلت جهاز الأغانى اللعين فتسارع الصوت مع انضغاط زر التسريع ، لتصل عصبيتى الى نقطة الجحيم ، و شعرت فجأة بقبضة ساخنة تعتصر قلبى ، فتهالك جسدى غير مبالياً بتمزق ذراعاى المثبتان بالبلطتين ، و شعرت فى اللحظة الأخيرة بذلك الظل على الجدار يغلفنى و يحتوينى ، مع تلاشى المشهد الضبابى ..

 

ثم عم الظلام ..

 

*      *      *

 

قالت لى و نحن نغادر سوياً الشاليه :

- أنت الآن أفضل حالاً .

 

نظرت الى ذراعىّ الممزقين ، شاعراً براحة غريبة ، و سألتها متجاهلاً ملحوظتها :

- إذاً فقد قتلت فى تلك الليلة و اختفت جثتك ، لكن ما الذى يدفع قاتلنا لإغراقنا بأشباح البحر أجمعين ؟ أى لذة يكتسبها هنا ؟

 

قادتنا أقدامنا - إذا صح أن نصفهما بالأقدام - الى شاطئ بحر ( رأس البر ) ، متجاهلين دهشة الباحثين الذين جاءوا على صراخى ليجدوا الفراغ ، حتى جهاز الموسيقى و زجاجة المشروب الغازى جرفتهما موجة الأشباح ، و ( علية ) كما عرفت اسمها تقول لى :

- انه ( نكرومانسر ) .. أول ساحر من نوعه يزور تلك المدينة الهادئة ، و لقد قادته روحه الخبيثة لذلك الشاليه فور اتهاء تلك الحادثة القديمة فيه ، ليخفى آثرها تماماً و ببعض التزوير و الرشوة ، يضع يده على الشاليه مستغلا ما حدث لأصحابه فى الحادثة ، و ليمارس فن استنطاق الموتى اللعين .

 

سألتها فى اهتمام :

- و ما الذى جرى فى تلك الحادثة بالضبط ؟

 

قالت ( علية ) بمعرفة كبيرة اكتسبتها أنا نفسى فيما بعد :

- لقد انفلت عيار الأب المصاب بمرض نفسى ، و فى إحدى مشاجراته مع زوجته مالكة العقار ، بسبب محاولته أن تتنازل له عن عقد الشاليه ، قتلها بإغراقها فى المغطس ، ثم فصل رأسها ، و ذبح الكلب الأليف ، و وضع رأسه فوق جثتها للإنتقام ، و وضع رأسها هى فوق جثته ، و أجلسهما أمامه ثلاثة أيام إمعاناً فى التشفى ، حتى ساءت حالته بشدة ، فطعن عنقه بسيخ الشى فى نهاية الأمر .

 

شعرت بالإمتعاض رغم حالتى الجديدة التى أصبحت عليها ، و قلت شارداً قلباً و قالباً :

- هنا مارس النكرومانسر تجربة جديدة من تجاربه مستغلاً الوضع الفريد .

 

واصلت كأنها لم تسمعنى :

- هكذا استغل حقد شبحها الهائل لإغراق كل من يلج الشاليه ، حتى يعود هو اليه يوماً و يجد دزينة من الأشباح الأتباع الذين سيفيدونه كثيراً .

 

انتابنى غضب مخيف و أنا أقول لها :

- لن أكون تابعاً لأحد .

 

هزت كتفيها بيأس و قالت ، و نحن نتوغل بالفعل سيراً فوق أمواج البحر المظلم  :

- لقد تسمرت برعب على ذلك الجدار عندما رأيته لآخر مرة شخصياً ، قبل أن يحضر شبح تلك المرأة الثائرة ، التى استخدمت بلطتين أهداهما هو اليها ، لتنتقم انتقام أبدى أعمى .. لن أستطيع مقاومته يا ( وليد ) إنه قوى جداً .

 

قلت لها بصوت هادر كقصف الرعد ، و نوح الأشجار الباسقة :

- أنا سأفعل و لتكن أولى مغامراتى فى ذلك العالم الجديد .

 

و لكن هذه قصة أخرى ..

 

*      *      *

 

هذا ما حدث فى ( رأس البر ) ..

 

و هذا الذى جعلنى أندم على تجاهل معاذير الفتيات .. الخاصة بأن الساعة تجاوزت منتصف الليل ، و بأن إقتحام المنزل يعاقب عليه القانون ، و أنه ربما يكون هناك قاتل أو شبح يتخذ الشاليه مقراً له !

 

لكنى على الأقل واصلت ( جروب مذكرات شبح شاب ) ، لكن هذه المرة ..

 

بقصص حقيقية ..

 

*      *      *


تعليقات

المشاركات الشائعة