قبل أن يعود غريبا
لم يكن الصحابة يتجرأون على الفتوى مثلما يحدث فى الفضائيات هذه الأيام ، و لو واجهت المتعصبين المتشددين بهذه الحقيقة المجردة ، لإتهموك فورا بالتفريط و اعتبروا أنه لو أن فى الفضائيات ما فيها فهى أفضل من لا شئ ، و بهذا المنطق أصبحنا فى آخر الركب الحضارى كمسلمين ، و أصبحنا نعتمد على فقه النوازل - جمع نازلة - و انصرف عنا الإبتكار و مسببات التقدم بغير رجعة ، إننا حتى لا نعرف كيف نتعامل مع جديد الغرب من المخترعات اليومية ، و نريد الفتوى فى كل كبيرة و صغيرة ، حتى أنه لو توفر جيش من المفتين فى كل دولة ، لما لاحقوا التطور الآنى الرهيب الحادث يوميا ..
كثير من القضايا الفقهية ليست من الثوابت لعدم تحديدنا من الأساس لهذه الثوابت ، و كثير من المفتين و المستفتين يشقون على أنفسهم و على الأمة بمناقشة ما ينبغى أن نستفت فيه قلوبنا ، و نسعى لتلقى العلم من أجله بأنفسنا ..
أصبح الدين اليوم مجالا كبيرا للتربح و أصبح شهر ( رمضان ) شبه موسم لمدعى العلم ، و رغم هذا فمازال هناك أمل فى حدوث تجديد للخطاب الدينى ، و تجديد للمفاهيم القديمة الخاطئة و تقديم الإسلام للغرب و العالم كله بصورة شديدة القوة اللمعان و الفخر و التكامل ، حتى نجد منهم أنفسهم علماء فى الدين كالشيخ العلامة محمد ناصر الدين بن الحاج نوح الألبانى الذى ولد عام 1333 هـ الموافق 1914 م في مدينة أشقودرة عاصمة دولة ألبانيا
، فقط عندما نفهم معنى التسامح فى الإسلام ، و مفهوم الرضا بقضاء الله ، و فقط عندما نعرف أنه ليس كل غير مسلم كافر ابتداءاً كما لقنونا طوال عمرنا ، فقط عندما نعرف أن الإسلام لم يفرق بين الرجل و المرأة ، و عندما نبدأ فى ردع الجهلة الذين تسببوا فى نعت الآخرين لنا بـ ( المتزمتين مضطهدى المرأة ) ..
لابد أن نعيد الدماء الى الأمة ، و نتصدى لمن يمنعوننا من إعادة الدماء بحديث الرسول عليه الصلاة و السلام نفسه "ان الله يبعث لهذه الأمه على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ، أى أنها يحول عليها الحول و تتقادم فيستدعى ذلك تجديدها ..
لابد أن نعلم أبناءنا و أحفادنا أن يقبلوا من يخالفهم ، و يناقشوهم و يتأدبوا معهم بكل الروح الطيبة مهما خالفوهم ، و أن يبشروا و لا ينفروا فنخلق جيلا عظيما من الدعاة الربانيين ، حتى اولى الأمر و مشايخنا الكبار عليهم إدراك حكمة أن بعض الآراء لا ينبغى أن يصرحوا بها و لو كانت عن قناعة ، و ذلك إذا ما تناقضت مع المصلحة العامة ، و ألا يخجلوا من التصريح بخطئهم فيعترفوا كما فعل القسطاس الفاروق أول أمير للمؤمنين و من وافقه رب العرش من فوق السماء السابعة بقرآن يتلى الى يوم الدين ، كما فعل ( عمر ) صاحب الموافقات العمرية عندما أعلن خطؤه فور أن تبين له ذلك بمنتهى التواضع أمام امرأة عادية ، ليست حتى من كبار الصحابيات ..
لا يصح أن يتكلم أى مسلم عادى بالقرآن و العلم و الفقه و الفتوى إلا لو كان عالما ، إذن السؤال : من الذي يصح أن يطلق عليه اسم عالم؟
الجواب :
(( العالم والفقيه هو مَنْ يبذل جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي ، وتكون عنده القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها .
وهذا يحتاج إلى تحصيل أدوات هذا الاجتهاد ، فلا يوصف بهذا الوصف (العالم أو المجتهد أو الفقهيه) إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد .
وقد اعتنى العلماء بهذه الشروط ، حتى لا يُفتح الباب لكل أحد ، من صغير أو كبير ، أن يقول في دين الله ما لا علم له به .
غير أننا نكتفي بنقلين اثنين فقط ، يحصل بهما بيان هذه الشروط .
الأول : عن الشوكاني رحمه الله ، وحاصل ما ذكره خمسة شروط :
الشرط الأول : أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة .
ولا يشترط أن يكون حافظاً للسنة ، بل يكفي أن يكون متمكناً من استخراجها من مواضعها ، وآكد ذلك العلم بما في دواوين السنة المشهورة ، (صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه) وما يلتحق بها .
ويكون عالماً بالصحيح منها من الضعيف .
الشرط الثاني : أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع .
الشرط الثالث : أن يكون عالماً بلسان العرب .
ولا يشترط حفظه له عن ظهر قلب ، وإنما يتمكن من معرفة معاني اللغة وخواص تراكيبها .
الشرط الرابع : أن يكون عالماً بأصول الفقه ، ومنه : القياس ، لأن أصول الفقه هو الأساس الذي يُبنى عليه استنباط الأحكام .
الشرط الخامس : أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ .
انظر : "إرشاد الفحول" (2/297 – 303) .
النقل الثاني : عن الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
فقد ذكر شروط المجتهد بما لا يختلف كثيراً مع ما ذكره الشوكاني رحمه الله ، غير أنه أسهل منه عبارةً : فقال :
"للاجتهاد شروط ، منها :
1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده ، كآيات الأحكام وأحاديثها .
2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه ، كمعرفة الإسناد ورجاله ، وغير ذلك .
3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع ، حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص ، أو تقييد ، أو نحوه ، حتى لا يحكم بما يخالف ذلك .
5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ ؛ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ، ونحو ذلك ؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات .
6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها" انتهى .
"الأصول من علم الأصول" (صـ 85 ، 86) وشرحه (صـ 584 – 590) .
ونَبَّه في الشرح على سهولة الرجوع إلى السنة الآن أكثر من ذي قبل ، بسبب الكتب المؤلفة في السنة .
فمن توفرت فيه هذه الشروط فهو العالم ، الذي يستطيع استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها ، وما دون ذلك فلا يصح أن يوصف بأنه عالم أو فقيه أو حتى مجتهد .
وينبغي التنبه هنا : إلى أن هذا الوصف (العالم أو المجتهد أو الفقيه) مصطلح شرعي ، له معناه عند العلماء ، وله شروطه ، فلا يجوز التساهل في إطلاقه على كل من تكلم في الأحكام الشرعية ، أو درس المواد الإسلامية في المدارس والجامعات ، أوعمل في الدعوة إلى الله ، فقد يكون الرجل داعية إلى الله ، ويبذل فيها جهده ، ولكنه لم يصل إلى درجة العالم . ))
فقط دعونا لا نشدد على أنفسنا كبنى اسرائيل ، و لا نتناحر فى تحديد هل يجوز تحريك الإصبع أم لا فى التشهد ، و فى تحديد هل الحجاب العادى مكروه أم لا ، و فى تحديد هل التلفزيون شيطان فى المنزل ؟! دعونا نتمسك أكثر ببث الأخلاق و الحفاظ على الدين و ترك البديهيات لفتوى القلب و الدقائق للمتخصصين من المشايخ الأجلاء ، و ذلك قبل فوات الآوان و قبل تحقق حديث رسول الإنسانية جمعاء صلوات الله و سلامه عليه حبيبى محمد بن عبد الله (( بدأ الإسلام غريبا , وسيعود غريبا كما بدأ )) ..
قبل أن يعود غريبا ..
نسأل الله تعالى العفو و العافية و أن يعلمنا ما ينفعنا ، و يزيدنا علماً .
والله أعلم
تعليقات
اللهم أصلح أحوال أمة نبيك الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ..
http://atheism-salafism.blogspot.com