نسيم الحقل


قصة قصيرة

نسيم الحقل





ليس هناك مفر من الإعتراف، فالصيف القائظ لا يمكن أن يهب فيه هواء منتظم القوة كهذا فى أوقات محددة..

هذا يفوق قدرتى على الفهم ؟؟ بالطبع أنا غبى وأعترف بهذا إذ لا يمكننى الفهم..

هناك شئ غامض وأنا كغبى لن أفهمه لكنى سأحاول، حتى لا أكون غبى وسلبى كذلك!

حقلى يقع فى الجهة الشمالية من القرية، وأنا أول من يستقبل رياح الشتاء، لكننا فى منتصف الصيف بالفعل، والرياح تهب فى ساعة الظهيرة عندما تتوسط الشمس كبد السماء، فى أكثر الأوقات قيظا.. فمن أين تأتى؟


منذ بدأ يوليو وحتى أوائل أغسطس هذا أزرع فى حقلى بالأرز النيلى المبهج، الذى يناسبه تماما تربة حقلى الطينية الخصبة، خاصة فى هذه الفترة من العام، وتتلخص طريقة الزراعة البدار فى حرث الأرض ثم تزحيفها وتلويطها. أعرف أنكم كلكم أصحاب تعليم راق وثقافة واسعة، لكن أراهنكم أنكم لا تعرفون شيئا عما أقول، وهذه نقطة تفوقى الوحيدة عليكم أيها المتعلمون، الذين لا تفقهون شيئا عن الفلاحة والزراعة والحرث والحصاد.. لكن بالله عليكم لا تتضايقوا من جلافتى وغبائى؛ إذ أقص عليكم ما يحدث حتى تساعدوننى على الفهم، فكيف تأتى الرياح الباردة فى هذه الساعة من الثانية عشر ظهرا حتى الواحدة ، فى أكثر الأوقات حرارة فى اليوم وأكثرها هجيرا خلال العام كله؟ أجيبونى هيا أم أنكم تعلمتم بلا فائدة ترجى؟

بعد التلويط تبذر تقاوى الأرز المكمورة (المستنبتة)، وتشتل النباتات بعد شهر من الزراعة بالمشتل فى الأرض المستديمة، وينضج الأرز بين 3 و4 أشهر بعد إضافة الأسمدة النيتروجينية فى الزراعة النيلى، ونقوم بعد ذلك أنا والرجال بقطع الأرز بمناجل حادة بعد تلاشى الندى، ونجمعه فى حزم تصنع أكواما تترك لتجف فى حوالى أسبوع، لكن قل لى بالله عليك كيف تخوض فى المياه لمباشرة عملك فى الحقل، مع العلم أن محصول الأرز فى هذه العروة النيلية محصول مائى بطبعه، فعندما تمرعليه الرياح الباردة تصبح المياه شبه مثلجة الى حد الرعدة؟!! كيف تحتمل العمل فى طقس كهذا؟ بحيث تلتهب رأسك بالأعلى وتكاد ساقيك أن تجمدا أسفلك؟

على أنه فى الليل المدلهم وبعد أن ينام الكل كالدجاج تمهيدا لعمل باكر الشاق، أصررت على السهر حتى أكتشف الحقيقة، احمرت عيناى من فرط الإستيقاظ والجهد وعدم النوم، لكنى أصررت على فهم ما يجرى، وهكذا عرفت شيئا هاما..

للحق لست غبيا بهذا القدر الذى تخيلته عن نفسى، بل ربما أكون عبقريا بشكل استثنائى عن بقية أبناء القرية البلهاء، ففى الليل البهيم حيث يكسو الظلام الموجودات ويخفى الألغاز المختلفات، رأيت ما انتصب له شعر ساعدى!

كنت مجهدا كبقرة أنهكها السعى فى طاحونة قطرها عشرة أمتار لفترة نهار بأكمله، لكنى توجهت لحقلى بحذر قبل منتصف الليل بقليل، وخضت بساقى فى مياهه الغزيرة بحذر، توقعت أن تتجمد شعيرات ساقى حتى الموت، إلا أن العكس تماما هو ما وجدت، إذ شعرت بالمياه ساخنة للغاية قرب درجة الغليان، كما لو أن بركانا قد تسربت حممه الى حقلى من باطن الأرض، الآن بماذا تشيرون على؟ برودة فى النهار وسط الحرارة، وسخونة فى الليل وسط البرد! إذا كانت الطماطم مجنونة كما يقول باعتها، فانظروا ماذا حل بعقل الأرز!

لكن هناك قبة تبرز من وسط المياه التى تغمر حقلى!

قبة معدنية لم أرها من قبل!

ترى ماذا يفعلون بحقلى، ولماذا يدفئونه ليلا، ويدفعون اليه بالنسيم نهارا؟!

اقتربت أكثر من القبة الداكنة المخيفة، وكلما اقتربت تكاد ساقى أن تذوبا من فرط السخونة، وتكاد أعصابى أن تنهار من فرط الغموض، وعندما وصلت حتى قرابة نصف المتر منها ، ومددت أصابعى للمسها، ارتفع صحنا عملاقا فجأة تحتل القبة منتصفه، وفر بعيدا ناثرا المياه الملتهبة فى كل مكان وعلى وجهى وصدرى. طار بلا مراوح أو حتى أصوات وابتلعته ظلمة السماء..

وسقطت فوقى زهرة حمراء كبيرة أمسكتها بدهشة وحيرة ونظرت اليها ، ثم نظرت الى النقطة التى اختفى فيها الصحن المذعور. بالقطع الآن انتم لا تفهمون شيئا مما يدل بالفعل على تدنى وسوء مستوى تعليمكم هذه الآونة، المفاجأة الآن أننى أنا من فهم ما حدث، ربما يثير هذا غيظكم وفضولكم وربما حسدكم، لكن لا مجال للفخر هنا فعبقريتى ستهوى فوق رؤوسكم حالا:

هذا أيها السادة هو سبب نسيم الحقل، ما لن يتوقعه خيالكم الضئيل، وأفقكم الضيق، وحكمتكم الوليدة، أن هذا الشئ المستدير المسطح الشبيه بقرص الفطير المحترق، ما هو إلا أحدث ما توصلت اليه وزارة الزراعة واستصلاح الأراضى العظيمة، التى تنفق كل مخترعاتها وتحشد علمائها لتزويدنا بآخر وأحدث ما توصل اليه العلم من وسائل متطورة لتوصيل الأسمدة المدعمة والتقاوى والكيماويات والبذور فورا، ولاريب أن هذا هو سر التحولات الغريبة، وكل هذا بالتأكيد بعد جهود السيد نقيب الفلاحين، جعله الله ذخرا لنا..

الوردة؟ .. انها شعار وزارة الزراعة الجديد بالقطع، وهو شعار يناسب التطور الجديد.. ليلتكم سعيدة!







بقلم/ عصام منصور

20 مايو 2012


تعليقات

المشاركات الشائعة