رجل فوق الألم- الفصل الأول: نهاية ماضى .. الحاسة






رجل فوق الألم








لكل منا اسم ..

لكل منا كيان و ماضى ..

نحن كذلك نشعر و نحس ..

لكن هل فكرنا ماذا لو انتزع منا كل هذا ؟!

هو هكذا ..









1- نهاية ماضى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ













الحاسة The Sense

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



التطور الجراحى لا ينتهى إلا عندما ينتهى



* * *



إزالة الضفيرة العصبية ، التى تنقل الشعور بالآلام إلى المخ ، عملية ممكنة و يمكن تجربتها ، لكن هل نعلم رد الفعل العكسى لها ؟!



* * *



مستشفى (القاهرة ) المركزى ، قسم النقاهة .. 10:25 ليلاً .. غرة أبريل ، الربع الثانى من القرن الـ 21 ..



« وجدتك أيها اللعين » ..!



انبعثت العبارة بهمس حاد فى غرفة النقاهة ، و رغم خفوتها ، إلا أنها أيقظته ..



ففتح عيناه دفعة ، و كأنه يصحو على دوى قنابل ، ثم أدار رأسه يساراً جهة الصوت ..



شاهد صورة مهتزة كأنه مازال فى حلم ، لشخص مقنع ينتزع مسدساً طويل الماسورة من حزامه ، و يطلق منه رصاصة واحدة ، نحو منتصف الجبهة ..



تماماً ..



* * *



ضجت المستشفى برجال الشرطة و رجال الطب الجنائى ، و ذلك عندما استعاد وعيه كاملاً هذه المرة ، و ذلك لبحث غموض جريمة القتل التى تمت بجواره مباشرة ..



* * *



قالت له ممرضته ، و هى تدفعه بفراشه المتحرك الى غرفة أخرى أكثر هدوءاً :

- « حمداً لله أن ذلك القاتل لم يصبك بأذى ، رغم أنك و القتيل وصلتما المستشفى معاً » .



* * *



كان محقق الشرطة هادئاً حقاً ، و لكن ذلك لم يخفف من دواره ، و المحقق يعدل ربطة عنقه و يسأله :

- اخبرنى طبيبك بعدم صفاؤك الكامل بعد ؛ لذا سألقى عليك سؤالاً واحداً ، و أرجو أن تحاول التركيز لإجابته .



ألقى نظرة على معاونه ، فوجده مستعداً للكتابة .. ثم ضغط مخارج الحروف :

- اخبرنى بالضبط معلوماتك عن القتيل ، و ما رأيته أثناء الجريمة .



قال ببطء :

- كل ما أعرفه أننى دخلت هنا معه ، و لقد قتله رجل مقنّع ، شاهدته بصعوبة وسط غيبوبتى .. هذا كل شئ يا سيدى .



* * *



حققت الشرطة معه مجدداً ..



و لكنه لم يرتبط بالأمر بشكل مؤثر ، خاصة مع فقده لأوراق هويته ..



و فقده كذلك لشئ أكبر ..



ذاكرته ..



كل ذاكرته ..



و لكنه سأل تلك الممرضة ، بعد الحادث بيومين :

- كنت قد أخبرتنى أننى وصلت الى المستشفى مع القتيل ؟



قالت هادئة مبتسمة :

- نعم كان ذلك منذ شهر بالتحديد ، كنت أنت مصاباً فى رأسك و ظهرك غائب عن الوعى ، فى حين كان هو متيقظاً رغم إصابته الفادحة .. و لقد كاد بأعوامه الخمسين أن يفارق عالمنا ، لولا العناية الإلهية و سرعتنا ، و رغم سنه إلا أنه كان يبدو أكثر قوة من ( فان ديزل ) !



سألها فى حيرة غلبت اهتمامه الشديد :

- ألم يقل أى شئ عنى ؟ أى معلومات ؟!



شعرت بإضطرابه و تأثره بفقده للذاكرة ، فقالت مشفقة :

- للأسف .. بقى السيد ( غريب الحسينى ) - كما عرفنا من جواز سفره - هذا الشهر المنصرم دون أن ينطق أو يكتب كلمة واحدة ، لإصابته بشلل رباعى شمل العنق و اللسان ، بسبب الحادث العنيف و المجهول الذى تعرضتما له .



قاست حرارته و نبضه و هى تواصل ، مختلسة النظر لوسامته :

- و لكنى أذكر أننى كنت أول من استقبلكما ، حينها تمتم قائلاً « اخبروا رفيقى إذا ما مت ، ألا يستخدم قدرته الخاصة إلا ضد الأوغاد ! » .. و أؤكد لك أنه لولا فضولى لإكتشاف حقيقة عبارته ، لما احتفظ ذهنى المشغول دوماً بهذا القول الغامض .. فهل تملك أية قدرات غير عادية أيها الوسيم ؟!



انعقد حاجباه محاولاً إحابتها ، ضاغطاً على عقله المنهك ، لكنه لم يجد جواب شاف ، فهز رأسه بنظرة حائرة بدت كأنها ستلازمه طويلاً ، فإبتسمت فى حنان و إشفاق متزايدين ، قائلة:

- « لا عليك .. لا تجهد عقلك الخارج من تحقيقات الشرطة ، يالها من مهنة مهنة الشرطة هذه ، فبرغم ما يعتقده البعض بمضايقتهم للناس العاديون ، إلا أننى أرى أنها أسمى مهنة .. فلتسترخ الآن » .



* * *



15 أبريل ..الخامسة مساءً ..



قال له طبيبه ، و هما جالسن على مائدة صغيرة :

- الآن و قد أنهيت العلاج الطبيعى التأهيلى ، أخبرك أن الحساب قد دفعه الراحل السيد ( غريب الحسينى ) ، و ترك لك وصلاً بتسلم باقى الحساب ، حوالى خمسة آلاف جنيه .. و أخبرك كذلك أن إصابة ظهرك المحترق ، كانت ستظل تلهبك بالألم ما بقيت حياً .. فاضطررنا معها لنزع توصيلة الأعصاب التى تنقل الشعور بالألم لمخك ، و الموجودة تحت الفقرة العنقية الخامسة .



سأله بوجوم شارد :

- هل تعنى ..أنكم أفقدتمونى الشعور بالآلام كلية ؟



مط الطبيب شفتيه فى أسف ، و قال متحاشياً النظر الى عينيه :

- لولا هذا لعانيت طيلة عمرك ، إنها النار يا رجل .. معذرة كان هذا الحل الوحيد كى لا يقتلك الألم .



سأله مغمض العينين :

- و لماذا تعتذر ؟!



قال بلهجة تتشرب بالإحراج و الإشفاق :

- إذا إفترضنا أنك ستتكيف مع هذه الخاصية ، التى قد يتمناها البعض .. فإنك لن تضمن السيطرة على رد الفعل العكسى لها ، مستحيل علمياً .



نظر اليه مباشرة بتساؤل قلق ، فقال الطبيب بتوتر حمل مسحة حزن :

- لا أعلم هل ستفهم هذا أم لا ، و لكن مع تلاشى معطيات الشعور بالألم عن العقل ، سيحتاج عقلك الباطنى و بشدة الى بدائل نفسية قوية ، تعوض فقد هذا الشعور السلبى الهام ، مما سيحفز هذا جهازك العصبى بسرعة ، و يدفع درجة إفراز ( الأدرينالين ) الى حافة الجنون .. بإختصار سيحولك رد الفعل الى وحش .. كتلة من العنف .. و ذلك وقت ذروة إنفعالك .



كان فاقداً للذاكرة ..



و لكنه أدرك و بعمق ما يعنيه هذا اللفظ ..



( وحش ) ..



لم يدر ما الذى اعتراه ، لكن تبادر الى ذهنه فور سماع الكلمة ، مشهداً فظيعاً ..



مشهد بشع لفناء مكتظ بالجثث البشرية ، حتى أن كثرتها كونت ما يشبه التل ..



تل من الموتى..



و كان يعتليه رجلاً ضخماً ، يكسو الضباب ملامحه ، و لكن أطرافه مخضبة بالدماء القانية ..



و تلاشى المشهد فى سرعة كما ولد بسرعة ، تاركاً فى ذهنه يقين أن هذا ليس خيالاً ..



بل ذكرى ..



ذكرى مخيفة من ماضيه المجهول ..



« ستبقى معنا » ..



كان هذا الطبيب:

- « قد تقتل نفسك فى المرات الأولى لتعرضك لهذه الردة ، كما أنه ليس لك جهة معينة أو قرار خارجى ككل فاقدى الذاكرة ، لذا فأسلم حل أن تبقى تحت رعايتنا ، فإحتمال أن تستعيدها هنا أسرع ، لأنه فقدان ذاكرة إرتجاعى نتج عن صدمة الرأس » ..



شعر الطبيب أنه يحادث رجلاً أصم ، و هو يقول لذلك الشارد مشفقاً ، مهماً بالرحيل :

- سنحتجزك .



( سنسجنك ) ..



( سنعتقلك ) ..



وثبت الكلمتان على الفور الى عقله ، الذى يحاول جر الماضى جراً بلا جدوى ..



لم تقفز صور جديدة ، لكن توازى المعنى فى ذهنه مع العناء المضنى ، و العذاب ، و الوحدة الرهيبة..



فرمق الطبيب المبتعد فى بطء ، بنظرة ملآى بالمشاعر المتضاربة و المختلطة ..



بالضياع ..



بالغربة ..



برودة المشاعر..



ذوبان الذات ..



النهاية ..



* * *




تعليقات

المشاركات الشائعة