الفصل الثالث (العبقرى) : .. الهبوط.




رجل فوق الألم





3- العبقرى ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



لكل شخص قدرة محدودة على احتمال الألم ، فبعضنا قد يصرخ باكياً من وخز دبوس ، فى حين قد يحتمل البعض الآخر مغصاً كلوياً حاداً ، دون أن يطلق آهة ألم ..



و هذا يعتمد على عوامل شتى ، منها إمكانيات الجسد الطبيعية ، و خبراته السابقة مع الألم ، أو تدريبه .. حتى أنه لدى الروس تدريبات خاصة لرفع الحد الأدنى من الشعور بالألم ..



*     *     *



الصلابة هى قدرة المادة على كسر غيرها من المواد ، بينما الصلادة هى قدرة المادة على خدش المواد ، هل فهمت ما يعنيه هذا ؟!



*     *     *




الهبوط .. The Descent        

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





جاءت وثبة ( نادر ) فى موعدها تماماً ..



كانت الطوافة التى تطير بميل مخيف ، و ترنح لا يحوى سيطرة كاملة ، تتجه للإرتطام الحتمى بحافة الكوبرى السفلية ، رغم كل محاولات ( هالة ) ، حتى وثب ( نادر ) من الباب و تعلق بذراعين قويين ، بالعوارض السفلية ..



كان يفصل بين المروحة ، و بين الكوبرى أقل من المتر ، قبل أن يختل توازن الطوافة مع ثقل ( نادر ) المباغت ، و إن لم تقل سرعتها و هى تمر من أسفله بسرعتها الكبيرة ..



و اتجه ( رءوف ) الى الباب ، و هتف بـ ( نادر ) المتدلى :

- هل أنت بخير يا رجل ؟



جاوبه ( نادر ) و هو يعود الى الطوافة المترنحة :

- حتى الآن فالخطر لم ينته بعد .



ثم سأل ( هالة ) فى اهتمام :

- هل يمكنك الهبوط بها الآن ؟!



اجابته و هى تحدق فى الظلام الممتد أمام الطوافة :

- ليس مباشرة .



سألها ( سمير ) فى توتر ، و هو يتشبث بمقعده :

- و لما .. ألم نتجاوز المنطقة السكنية الى أطراف ( القاهرة ) ؟



انعقدت حواجب الجميع محاولين إختراق حجب الظلام بأبصارهم المجردة ، مع إجابتها :

- هذا صحيح .. و لكن هذه المساحات تكتظ بمروحيات طاقة الرياح العملاقة .



لم تكد تلقى تفسيرها المخيف ، حتى مرقت الطوافة كسهم ضال ، وسط مئات الأعمدة الضخمة التى تحمل زعانف وشفرات انتاج الطاقة الكهربائية عبر حركة الرياح، فى منطقة محظور الطيران المنخفض فيها ، مصدرة حفيفاً مدوياً مرعباً على هذا القرب ، غطى على أزيز الطوافة ، و هى تحاصرهم على نحو مخيف من كل اتجاه ، فقالت ( ماجدة ) بيأس :

- نجونا من الكوبرى لنتفتت الى مئات القطع على هذا الإرتفاع .



أيد ( سمير ) نغمتها اليائسة قائلاً :

- لو لم يحدث بين هذه الشفرات ، فعند الإرتطام العنيف حتماً لدى هبوطنا الإضطرارى .



مع نهاية عبارته المنهارة ، شق ذراع ضخم لإحدى المروحيات الهواء أمام النافذة اليمنى ، و مس آخر ذيل الطوافة ، قبل أن تظهر تلك المروحية فى المواجهة فجأة ، و الطوافة تتجه إليها بلهفة غير مرئية ، جعلت ( رءوف ) يغمض عينيه ، قائلاً فى شحوب :

- رباه .. سنعبر من بين زعانفها تماماً .



بينما أيقن ( نادر ) أن الأمل كله يكمن فى الله ( تعالى ) ، ثم فى مهارة ( هالة ) ، التى راحت تقاتل باذلة أقصى خبرتها و براعتها فى القيادة ، رغم إدراكها مسبقاً أن الأمل ضعيف لو كانت الطائرة بحالتها ، فما البال بعد عطل مروحة التوازن ؟



و راحت الأمتار تتناقص فى سرعة ، و الطوافة المترنحة تمرق بركابها الخمسة فوق حقل الرياح، نحو أطراف المروحية العملاقة ، حيث تشق الزعانف الهواء بقوة أكبر ..



كاد الأمر ينجح مع إتجاه الطوافة للمرور عبر ذراعين منها ، رغم عدم سيطرة ( هالة ) عليها بنسبة مائة فى المائة ، لولا أن زادت قوة الرياح فجأة ، لترتفع سرعة المروحية تلقائياً ..



و تعلقت عينا ( نادر ) بالشفرة السفلية التى تدور فى اتجاه عقارب الساعة ، و هى ترتفع لتنقض على فريستها ..



و ضربت الشفرة الذيل ..



و حطمتها ..



و هتفت ( هالة ) :

- نتجه للهبوط الحر بلا أدنى سيطرة .



غمغم ( سمير ) فى توتر :

- يا له من سرد رائع ، لقد حطمت فؤادى !



صاح ( نادر ) بقائده :

- أين مظلات النجاة ؟!



أجابه ( رءوف ) فى عصبية :

- لقد طلبت الطوافة على وجه السرعة ، و لا توجد سوى مظلة الطيار .



اسقط بين يدى ( نادر ) ، فقال :

- حسناً إنها لك يا ( ماجدة ) .



قالت ( هالة ) ، و الطوافة تسقط حلزونياً بسرعة :

- فات الأوان .. إننا على إرتفاع عشرين متر فقط .. استعدوا للقفز الحر ، هيا .. الآن .



و مع حسمها حمل ( نادر ) ( ماجدة ) ، و لم ير ( رءوف ) الذى فضل حماية ( سمير ) تاركاً ( هالة ) ..



ثم قفزوا ..



و كان أعنف سقوط تلقوه فى حياتهم بأسرها ، و بينما يتدحرجون بسرعة و عنف كبيران ، صم آذانهم إنفجار الطوافة على مقربة ، و دفعتهم موجة تضاغطه بعنف أكثر ، شعروا معه أن عظامهم قد تحطمت أخيراً ، حتى همدت الأجساد و سكنت فى تلك المنطقة الخالية المقفرة ..



و ظل صوت مروحيات الطاقة والتوربينات الضخمة يشق الصمت ، كأمواج البحر الأبدية ..


ثم نهضت ( هالة ) ..



تفقدت إصابات ( رءوف ) و ( سمير ) لتجدها قابلة للعلاج ، و عندما اتجهت للباقين ، شاهدت ( نادر ) يقف على قدميه و يسألها فى دهشة :

- أنت سليمة تماماً ؟ ربما بعض المزق فى ثيابك و حسب .



أجابته فى رقة هادئة ، و ابتسامة مرسومة تعلو شفتيها :

- ربما تفاجئك باقى قدراتى .



بدا عليه عدم الإقتناع ، فسألته هى :

- ماذا عنها ؟



أدرك محاولتها لإبعاد تفكيره ، و أنها عنت ( ماجدة ) التى فحصها ، فقال :

- يبدو لى أنها مصابة برضوض قوية ، هى فقط حية و فى غيبوبة .



جاء هنا ( رءوف ) و ( سمير ) بادية عليهما إمارات الألم ، و الثانى يشير الى ( نادر ) قائلاً فى قلق :

- يا الهى .. إنك مصاب فى أجزاء عدة من جسدك .



ألقى ( نادر ) نظرة على جراحه الثخينة ، و قد لاحظ هذا لأول مرة لعدم شعوره بأية آلام ناتجة عن الإصابات ، و بدا غير آبهاً و هو يسأل قائده :

- تبدو لى أنت الذى يعانى أيها القائد ؟



تأمل ( رءوف ) ( ماجدة ) و هو يقول بصرامة :

- دعك منى إنها كدمة بسيطة ، هل فقدت هى الوعى ؟



أومأت له ( هالة ) و ( نادر ) معاً بالإيجاب ، فقال ببعض السخط :

- اللعنة ! هذا يعنى أنه ينبغى إيقاظها فوراً ! .. ( هالة ) اجرى اتصالاً عاجلاً بالقيادة لإلتقاطنا .



انتحت ( هالة ) جانباً مجرية الإتصال بوسيلة خفية ، بينما ( نادر ) يسأله مهتماً :

- إنها ليست مصابة الى هذا الحد !



أجابه ( رءوف ) و هو يربط إصابة دامية فى كاحل ( سمير ) :

- لست أقصد هذا ، إننى أعنى عبارتها و الدكتور ( فخرى ) يطلق علينا نيرانه « رباه ..! إنه ينوى ذلك بالفعل » .. إنها لا تعنى بالطبع محاولته لإسقاطنا ، بل أفكاره عند اقترابنا منه الى الحد الكافى ، الذى سمح لها بقراءتها من عقله مباشرة .. و يمكنك أنت أن تتخيل هذه الأفكار .



و أردف ( سمير ) و يضغط أسنانه من الألم :

- و تضع فى إعتبارك مكان تفجير قنبلته .. و زمانه .



و هبط القول عليه بعنف ..



*     *     *
يتبع ...

روابط الفصلين السابقين
الجزء الأول: نهاية ماضى - الحاسة
الجزء الثانى: نهاية ماضى - نادر

الجزء الثالث: قنبلة - تضليل
http://essam-mansour.blogspot.com/2011/12/blog-post_30.html

الجزء الرابع: قنبلة- د. فخرى
http://essam-mansour.blogspot.com/2012/01/blog-post_03.html

تعليقات

المشاركات الشائعة