نقص




كنا ننظر بجمود ، وعندما دوت الصفعة الأولى ، التصقت أقدامنا بالأرض .
***
اسمى (كمال) . ترى أنه مشتق من الكمال . أنا أتمتع بذكاء كبير وأسأل عن كل شئ لأعرف مغزاه كما ترى ، رغم أننى عامل فى مخبز أنقل الخبز على الدراجة ، إلا أننى أفتخر أننى كنت صبى للاصق سيراميك ، وهى مهنة أفضل من صبى المخبز ، ونقودها أعلى ، لكن سيدى الذى يلصق السيراميك ، كان يشرب المخدرات ، وكان هذا يسبب لى مشاكل ، لكنى الآن تركت هذه المصائب .. أنا فقير لكننى أتحلى بالأخلاق ..


ذات مرة حاول ذلك الرجل إجبارى على مشاهدة مشاهد عارية على هاتفه المحمول ، لكنى رفضت فصفعنى ساخرا ، وكاد الأمر يتطور الى ما هو أسوأ ، خاصة أنه فى قرارته لم يكن مقتنعا بحسن أخلاقى ، وكان يؤكد لى أن كل الحرفيين منحرفين فلماذا أتخير عنهم ؟ لماذا هذا الجنون والتمثيل والغباء المطلق ؟!
لكنى تحديته بطريقة جريئة جدا .. لقد ذهبت فى اليوم التالى ، وتجاسرت على طلب فتوى من الشيخ . رفض الشيخ أن يعتبرها فتوى ، ولكنه اكد أنه سيقول لى رأى الدين ! لم أعرف الفارق ، لكن لا يقللن هذا من ذكائى عندك أرجوك ، فلاريب أنه لا فارق بين الأمرين ، بدليل أن الشيخ استطرد بأن الرأى يشبه الفتوى تماما ، لكنه لا يجعله متحرجا ! أيضا لم أعى المعنى والسبب لهذا التحرج ، فلربما هو أمر دينى بحت . سألته عن مدى تحريم المخدرات فى الدين ، فأكد لى أنها محرمة ..
يا للظفر ! شكرت مولانا ، وأسرعت الى المبلط . كان يوم عمل طويل . وبينما يداه غارقتان فى الملاط وهو يثبت إحدى بلاطات السيراميك ، ألقيت قنبلتى :
- لقد سألت مولانا الشيخ عن المخدرات .. خمن ماذا قال لى ؟ إنها حرام .. أى أنك تفعل شئ حرام !
توقف عن العمل فجأة وهو يلتفت لى ، أعتقد أن تفرسه كان يعنى شئ من إثنان ، إما أنه يختبر جديتى ، أو أنه سيستعد لصفعى مجددا ، فتراجعت خطوة فى حذر فى الإتجاه المعاكس له ، تحسبا من الإحتمال الثانى .. لست غبيا .. والحكمة تقول أن الإحتياط واجب ..
لكننى فوجئت برد فعله مذهل السخرية ، بينما يضحك بملئ فيه .
- بعد قليل ستعطينى محاضرة عن عمالة الأطفال والعنف ! أعرف بالقطع أنها حرام .
لم أستطيع الربط بين عمالة الأطفال والمخدرات ، لكنى اشتممت إهانة جديدة .. أيعتبرنى طفلا هذا الرجل ؟ ثم ماذا يعنيه بأنه يعرف ؟ هل يتظاهر بالذكاء الآن ؟
لكنى الآن فى عمل آخر ، وهذه مجرد ذكرى .. كل ما يشغلنى بصددها - وحتى الآن - رد فعله الغريب ! ما معنى رد فعله ؟ هل يعرف الشيخ لذا فسيشفع له ؟! أم أنه أقلع عن المخدرات فى اللحظة الأخيرة ؟!! كلها تساؤلات قد لا تغنى عن الحقيقة ، وقد تحوى شئ من الحقيقة ، لا يهم .. فقد رحلت قبل أن أعرف بعد أن طفح الكيل ..
لكننى فخور بنفسى وخلقى ..
كل ما يهم الآن أننى أفتخر بنفسى وبخلقى ..
***
أضحك . اللعنة على بعض هؤلاء المثقفين الحمقى . وصل بهم الغرور الى اعتبار أن حريتهم فضيلة بحد ذاتها ، ثم يسمحون لأنفسهم تحت اسم هذه الحرية بمشاهدة العروض الإباحية ، وقراءة الروايات المخجلة ، وكتابة الأفكار العارية !
أجلس الآن أمام حاسبى وأستمع لإديث بياف .. صحيح أن شيطانى يلح على ليصور لى أن هذا غير كاف  كى أقنع نفسى بأننى مثقف ، ناهيك عن أن أكون أفضل من هؤلاء الذين سخرت منهم للتو ، إلا أننى مؤمن قوى بمنهج التجربة والخطأ .. فى النهاية أنت تصير واحدا منهم .. من هم ؟ الصفوة .. النخبة .. هؤلاء اكتسبوا مكانتهم بالتثقيف المستمر ، وتذوق الفنون والفلسفة . انتهيت من قراءة كتاب جديد عن الجمال فى الفلسفة ، واستعد لمواصلة ما بدأته فى كتاب ( الأخلاق فى الفسلفة ) ..
بعد " بياف " ارتديت ملابسى استعدادا لتلك الندوة ، التى سأكون أحد متحديثها فى وسط البلد ، لكن شيطانى كما فى رواية (عزازيل) كان لا ينفك يثبطنى ، ويؤكد لى أن هذا أيضا لا يعنى أننى أرقى أو أفضل أو أسمى ..
بعد التهامى لذلك اللوح من الشيكولاتة ، حرصت على إلقاء المغلف فى سلة القمامة المعلقة فى أحد أعمدة الإنارة .
- ولا هذا يا ( فتحى ) . هكذا قال لى ساخرا مكررا استفزازى .
وجدت شحاذا فانحنيت لأضع فى يده ثلاثة جنيهات كاملة ، ما تبقى من الخمسة جنيهات التى أخرجتها لشراء اللوح .
- ولا هذا .
 كان مصرا على إهانة روحى .. شيطانى الذى سأتخلص منه فى أى موقف يرجح الجمال والحق والفضيلة ، على الشر والبذاءة والسوقية .
أى موقف .
***
كان يوما صعبا لكنه رغم ذلك مريحا جدا لضميرى . إنها ليست حجة أننى موظف حكومى يكفى راتبه بالكاد إطعام أسرته ، وكساءها ، ومتطلبات الأولاد فى مدارسهم وجامعاتهم وخارجها ، من أدوات ودروس خصوصية شهرية ، وأقساط التلفزيون والمبرد ، والإيجار وفواتير المياه والكهرباء والغاز ، موظف يقوم بعمل (الجمعيات) بلا توقف للحصول على مدخرات ما ، وتزيد ديونه بلا هدنة عند القريب والغريب ، ويضغط على نفسه حتى لا ينفق المزيد من الجنيهات ، لعلاج آلام ضرسه المتزايدة رهيبة الوطء . ليست حجة لقبول أى رشوة ، حتى لو كانت مبلغا يكفى لإعاشتى وأسرتى ، ومعالجة الديون المتكدسة منذ عامين ..
- يا أستاذ ( عبد الرزاق ) .. المبلغ غير قليل ، اعتبره دين غير قابل للسداد . سأنتظر أن تقوم بأى مشروع ، وسأقبل رده من أرباح هذا المشروع مهما طال الوقت .
هكذا حاول الراشى إغرائى .. سأسهل له رسوم بقيمة مائتى ألف جنيه ، بل وقد أحميه من فحص ضريبى وشيك . الأمر قد يلقيه وراء القضبان ، لذا فالمبلغ كان يدير العقول بحق .. مائة وخمسون ألف جنيه .. نقود سائلة غير معلمة ..
مبلغ يعنى المصاريف ..
الطعام ..
مشروع مربح ..
يعنى تحول فى الحياة كلها من البؤس والشقاء الى الراحة أخيرا ، بعد خمسة وخمسين سنة من الكفاح فى هذه الحياة القاسية ، فى هذا البلد الذى لا يصلح لحياة الآدميين ..
لكن ابن خالتى فعلها قديما ، وأدخل المال الحرام الى بيته ، ففقد ولديه فى يوم واحد فى حادث مرورى على مزلقان القطار ، صحيح أن الولدين استراحا من الفقر ، لكن ماذا فعل المال الحرام بأبيهما ؟ وكيف سيصلح قلبه المفطور بعد أن أدرك السبب المباشر للحادث ؟ وأنه ليس خطأ محولجى السكك .. بل محولجى جيبه ، الذى سمح بمرور سريع للرزق الحرام .. إنه رزق .. فى ظاهره أوراق بنكنوت .. لكن فى باطنه العذاب فى الدنيا وما بعدها ..
سأرضى ضميرى مهما كان وفى أى مكان ..
***
- ( عزة ) ماذا تعنى كلمة فيمينست ؟
هكذا سأتنى شقيقتى المجنونة ، أحبها كثيراً لكن شخصيتها المرحة المتقلبة تجعلنى أحب نعتها بهذا اللقب .. المجنونة .. فأخبرتها أنها تعنى الأنثوية ، وأنها تتعلق بعملى كناشطة سياسية وحقوقية ، فقالت بلا مبالاة :
- كنت أعرف هذا .
قذفتها بوسادتى وسط ضحكات كلتينا ، وقررت أن أكتفى من مداعباتها ليوم واحد ، فارتديت ملابسى لحضور اجتماع الحزب ..
- ملابسك محتشمة وثقيلة جدا .. تشبهين الدب القطبى بهذه السترة البيضاء المنتفخة ! كما أن شعرك متجعد وأشبه بالقش !
كانت أضع أحمر الشفاه - البنى فى الواقع - فلم أحفل بمجاراة مجنونتنا الصغيرة !
 اليوم سنناقش أمور عدة ، فنحن فى مرحلة مشوشة . نريد أن نحدد أهى مرحلة ( ما قبل انتقالية ) على اعتبار أن الثوار لم يحكموا بعد ، أم أن ( الثورة مستمرة ) ، أم أنها كما يقول الحكام الجدد ( ما بعد انتقالية ) ؟ لكنى لم أكن أريد الخروج بسبب شدة برد يناير ، وكسلى اللذيذ الطقوس ! ذلك الكسل الذى أملأه بأكل التسالى وشرائح البطاطس ، والسماع للأغانى ومشاهدة القنوات الفضائية وبرامج السهرة ، بل وإعادة المسلسلات التركية التى قد تكون فاتتنى حلقاتها .
وفى الطريق حدث ما حول مسار اليوم بأكمله .. بل مسار حياتى كلها ..
حدثت أشنع حادثة أشهدها بنفسى . نحن نسمع عن الحوادث . تدعو أمهاتنا ليل بعد نهار ألا نتعرض للحوادث . لكن صدقنى شهود الحادثة ومعاصرتها تختلف كليا عن السمع عنها .. تختلف جذريا ..
***
- إنهم حفنة من الأطفال قلبوا لنا حال البلد .
- إذا كانوا أطفال كيف يفعلوها يا ( مختار ) ؟
- عندنا فى الصعيد لم يصل هؤلاء المأجورون السفهاء .
- هاهاها ! هذا حقيقى هذه المرة .. الصعيد كما هو على كل المستويات . هل مازال الثأر شيئا مشاعيا لديكم ؟ أم أن الأمر أصبح مثلما نفعل هنا فى (القاهرة) ؟
- مازال الثأر قبليا عائليا ولن نغيره للبلطجة الفردية ، لن يصل اليوم الذى نرى فيه الفتيات المائعات ذوات الضحكات الرقيعة ، وهن يقضين الليل فى الشارع بحجة العمل الثورى !
- يسمون نوعك هذا بـ (الفلول) .. ولا تسألنى عن معنى المصطلح فلست ضليعا فى الفصحى ، لكنهم يسخرون منه ليل نهار فى الإعلام ، والبرامج السياسية ، والصحف المستقلة .
- فليسموا من شاءوا بما شاءوا . أخلاقنا العظيمة لن تتغير .. الصعايدة سيظلوا مكمن الكرم والعزة ، وموضع الفخر والكبرياء .
- الى أين أنت ذاهب .. أكمل (الدومينو) .
- سأعرج على المكوجى لأستلم بزة العمل . إنهم يشترطون فى أول أيام العمل بالقسم أن يكون الأمين مهندم تماما .
- الى اللقاء .. أراك الجمعة القادمة .
- إن أطال الله فى أعمارنا ، السلام عليكم .
***
قال لى الشيخ :
- إذهب لترى الموقف يا ( محمد ) .. الصوت جاء من الميضأة .
اليوم سيكون تمام البدر ، والحمد لله صائما كالعادة فى 13 و14 و15 من الشهر العربى ككل شهر . لكن المشاغل كثيرة .. واليوم بعد أن أؤذن لصلاة العصر ، على أن أتوجه الى ( العتبة ) لإبتياع مكبر صوتى جديد ، بعد تلف القديم وحاجة المسجد الماسة لآخر أحدث .
دخلت الميضأة فوجدت شابا ساقطا ، كان ينهض وقد ابتل قميصه ، فسألته إن كان بخير ، فأوصانى بمسح الميضأة جيدا ، إذ أن أرضيتها الزلقة أسقطته بقوة على جانب قفصه الصدرى ، وهو ما سمعه الشيخ وطلب منى تفقده ، فابتسمت له بود وأسرعت لمسح الأرضية بالفعل ، والتى يتكرر بللها بتكرر وصول المتوضئين .. ترى أتعد هذه سيئة فى حقى ؟
داعبت لحيتى الطويلة ، وتجاهلت الأمر .. فالشاب رغم أنه يتوضأ استعدادا للصلاة ، إلا أنه يبدو من هؤلاء الشباب المستهترين ، بأناقته المفرطة وشعره الطويل ، ولا ريب أنه يستحق ما وقع له ، أو ...! استغفر الله ! استغفرت الله مرارا إذ ضبطت نفسى أتهمه دون سند ، وتذكرت أن الشوكة يشاكها المؤمن فتغفر له ، ولا ريب أن سقطة قوية كهذه تعادل عشرة شوكات ! ولم أسأل نفسى إن كان مؤمنا بالطبع ، مهما بدا مظهره الذى قد يفتن البنات ، وإلا استرسلت فى الإتهام الذى قد يؤدى الى البهتان والعياذ بالله !
بعد انتهائى من المسح توجهت كى أؤذن للعصر . كان على بذل مجهود مضاعف والإقتراب من باب المسجد ، حتى يصل صوتى لأبعد مسافة ممكنة .. أثناء الآذان داهمنى خاطر .. فصوتى لم يكن جهورى كفاية بدون ميكروفون ، فهل أكون هكذا مؤذن حقيقى ؟ لم استرسل فى خاطرى أيضا ، إذ ربما يكون من الشيطان اللعين الرجيم ..
بعد انتهاء الصلاة أخبرت الشيخ بموضوع تكرار سقوط المياه على الأرض ، وعدم جفافها سريعا لإستمرار توافد المصلين ، فنصحنى بشراء ذلك النوع من الحصر المطاطى المفرغ فى طريقى ، فهذا يمنع الإنزلاق ، فاستحسنت الفكرة ، وجهزت جيوبى بمبلغ إضافى ، زيادة على مبلغ المكبر الصوتى .

***
كنا ننظر بجمود ، وعندما دوت الصفعة الأولى ، التصقت أقدامنا بالأرض .. برسوخ ..
نحن مختلفين متعددين ومتنوعين ، أحدنا عامل مخبز ، والثانى يبدو أنه شاب ابن ناس ، الثالث كان موظف ، رابعتنا هى الفتاة الوحيدة فى هذا الموقف العصيب ، الخامس كان أمين شرطة ضخم سيكون مفيدا لا شك ، وأخيرا سادسنا ذلك الشيخ الملتحى الشاب هادئ السمت .. نحن كثرة وهو بمفرده وغير مسلح .. صحيح كان يبدو قويا مشدود العود ويكأنه ملاكم ، يحمل تلك الملامح الشرسة التى تميز الشباب الفقراء بالأحياء العشوائية ، وصحيح أنه كان بجوار مركبته المسماة بـ (التوكتوك) ، أى أنه يخشى على رزقه ، إلا أن كل شئ محتمل ..
سلاح أبيض فى ملابسه . سلاح نارى فى (التوكتوك) . ناهيك عن كوننا فى منطقته .. هى منطقة تعتبر فى وسط العاصمة ، تحيطها المناطق الراقية من كل الجبهات ، لكنها مازالت منطقة فقيرة شعبية كما يبدو ..
لكن الفتاة ..
تلك الفتاة ..
الفتاة الرقيقة التى أحطنا بها إحاطة السوار بالمعصم ، ونظراتنا تحمل كل الحسرة الحذرة ، الفتاة التى تضع ذراعيها برعب حول صدرها ، وقد تمزق جزء من قمة قميصها ..
لو تجمد الزمن وتجمدت ، لكانت تمثالا مجسما للفزع والإهانة والمرارة والخوف وفقدان الأمن ..
لكانت دليل خستنا الدامغ ..
- لقد تحرش بى .. تحرش بى .
ناحت بها بلا أمل ، وهى تستجدى العون والمؤازرة منا ، ونحن نلتصق أكثر فأكثر بالأرض ، ننقل عيوننا بتوتر بينها وبين ذلك الشاب الممتلئ فتوة وثقة صاحب (التوكتوك) ، الذى كان يجيل بصره بنظرات نارية فينا ، تحمل فى طياتها تحذيرا حيوانيا لا نهائيا باستعمال الوحشية ، وتنشد فى الوقت نفسه - بمزيج عجيب - الإقتناع بسلامة موقفه .
- كنت أعاونها على النزول من (التوكتوك) . اللعينة تبدو كأنها قد شربت حتى الثمالة , فبمجرد أن اشتبك خاتمى البارز بملابسها ظنت أننى أعتدى عليها . بينما هى كانت خارجة من هذا الملهى الرخيص من البداية !
كان يبرر . واضح أنه كان يكذب كذلك .. نظرات الإستنكار المصعوقة والهلعة فى عينا الفتاة بدت صادقة جدا ..
صفعته الأولى لها لم تحرك فينا سوى الفتاة بيننا ، التى احتوتها فى صمت وهى تلف كتفيها بشالها الشتوى ، لكن الصفعة الثانية كانت منا .. من أحدنا .. من أكثر من ينبغى أن يحوذ ثقتنا - فى الواقع الطبيعى - ومن أشدنا بأسا وضخامة .
الفتاة لم تصمت .. ظنت أنها هى المظلومة ، فبدت فى نظره كما لو أنها تتجرأ على قولها الأخير :
- أى ملهى .. ليس لى علاقة بما يقول .. إنه متحرش .. حيوان . ليس برجل وأنتم لستم برجال .
هنا تقدم أمين الشرطة وهوى عليها بالصفعة الثانية بنفسه ، متبادلا نظرة تضامن مع البلطجى المتحرش ، ثم برم شاربه .
- اصمتى يا حقيرة .. خذيها من هنا هذه السافلة .. أى مصائب تلقى بكم الى شوارعنا ، أفلا تحتشمين . سنريك كيف أننا لسنا برجال إذا تفوهتى بحرف آخر .
كان أمره للفتاة التى منا أن تأخذها من هنا .. نظراتنا كلها كانت كما لو أنها نظرات بشر ، لكن شئ ضبابى لعين كان يعميها ويشل عضلاتنا .. هاهو السائق يدس يده فى أحشاء مركبته ، فتهدر ويشتعل مسجله فيها تلقائيا صارخا بأغنية شعبية ، يصرح فيها المطرب بلا مواربة برغبته الدفينة تجاه جسد محبوبته .. وبينما يبتعد كنا نتفرق شاردين ، وعلى وجوهنا ذات النظرات اليومية التى تحصل عليها فتيات أخريات أهدرت كرامتهن على الأسفلت .. 
ولن تحصلن يوما على غيرها ..
نظرات كنظرات ( كمال ) .. ابن البلد .. الذى كان يفتخر قبل هذا الموقف بحسن أخلاقه . كان .
كنظرات ( فتحى ) .. الباحث عن الرقى والسمو والثقافة والبراءة والأخلاق والحق ، والتى انكسرت مرتين ، مرة عبر مبادئه ومرة عبر زجاج منظاهر الثمين الذى كلفه سبعمائة جنيه فيخشى أن يتحطم فى مشاجرة خرقاء ، قد لا يجنى من ورائها سوى اتساخ هندامه قبل الندوة الهامة ، والذى كان يظن نفسه قبل هذا الموقف أفضل وأكثر ملائكية . كان .
كنظرات الأستاذ ( عبدالرزاق ) .. الذى يفضل أن يحيا مستورا أمينا نظيفا حتى لو كان الثمن هو الجوع ، والذى كان يظن أنه سيرضى ضميره مهما كلفه الأمر ، ويعض الآن شفتيه قهراً لعجزه عن مساعدة الفتاة . كان .
كنظرات ( عزة ) .. التى كانت تعتقد أن الشهامة داء مستشرى فى نساء (مصر) قبل رجالها ، وكانت تؤيد الدفاع عن حقوق المرأة ضد افضطهاد بكافة اشكاله وصوره ، حتى لو ألقى بها هذا فى غياهب السجون .. بل أن وجودها فى السجون من أجل قضية حقوقية ، كان يزين لها نجومية وشهرة لا نهائيتان ، والتى كانت تعرف يقينا أنها ستتصدى لأى ذئب بشرى قد يؤذى بنات جنسها . كانت .
ابتعدنا وعلى وجوهنا نظرات كنظرات ( مختار ) البائسة .. إنه يعتقد فى قرارة نفسه أن الفتاة انتهكت بالفعل ، لكن هذا مطمور تحت مقاومة وثقل كل أفكار ذكورية رجعية يمكنك تخيلها ، تحت انحياز غير طبيعى كاسح لسيطرة الرجل ، مطمور تحت معاداة وبغض هائلان لثوار ، يبدون فعلا قوميا سياسيا بطوليا ، مطمور بدوره وراء هيئتهم الشابة المتوردة المثقفة الأنيقة .. لماذا حصلوا على كل هذا المجد وتركوا لنا ماضينا الكسول الجبان ؟ لماذا تحرك الشباب وتوقف الرجال ؟ هذا يضايقه يثيره ويشعره بعجز مبهم . كان يأمل أنه سيظل محافظا صعيديا له سمات النبل والشرف وإغاثة الملهوف ، كان يعتقد أنه لن يخشى بلطجيا بعد انهيار الداخلية . كان .
ابتعدنا ودوى الصفعة الثانية يدق دقات شريرة فى عقل الشيخ ( محمد ) .. تنازعه رغبات دينية أكثر قوة وعنفا من رغباتهم ، رغبات تشعره بالعار الكامل .. هل الأمانة تحتم عليه الخيانة ؟ أمانة رحلته وماله الذى سيبتاع به أمانة المسجد ومستلزماته ، أمام خيانة عرض وشرف بنات بلده أمام المهتاجين جنسيا ؟
أم الخوف الصريح على الحياة ؟ وهل الحياة إلا لهو ولعب ؟ أى شيطان كبله وأخافه وزين له الجبن والإنزواء والإنطواء تحت جناح الإرهاب التحرشى ؟
حتى الشيخ ( محمد ) نفسه كان يظن أن هدوءه الشديد ما هو إلا تطبيق لحكمة ( احذروا الحليم إذا غضب ) ، وأنه لن يلبث أن يغضب لله ، ولتكونن غضبته كاسحة لا تحتمل . كان .
ابتعدنا كلنا نناقش أنفسنا ونحاسبها ونرفضها ، ونحن متأكدين أنها كانت أشجعنا على الإطلاق .. أنها الوحيدة التى تكلمت وقالت : لستم برجال .

عصام منصور
1-1-2013 

تعليقات

المشاركات الشائعة