الرق المفقود - من وحى رواية عزازيل




فى صومعتى، وبعد ساعة من النوم جالسا كعادتى القديمة، مررت أصابعى على حواف الكليم الدمشقى المزركش والمنسوج من وبر الجمال، بينما جعل لسان باطنى يلهج مطمئنا: يا الهى الرحيم، أفلا تحيلنى الى نبع ماء ؟ أو سحاب مركوم ؟ فأمطر خيرا وبركات على بلادنا القاحلة، فتقابلنى وجوه بِشر لبشر يحجون هناك فى أوروشاليم ، يدعون لى ويشكرونك على نعمتك المتولدة من أمجادك السماوية. نورك سيرشدنى وينقذنى يا آبانا العظيم. أنعم لى بمغفرة خطاياى.

لكن من أين لى الراحة والهناء والرشاد، وقد فقدت النبوغ فى الطب، وإدراك سر الأبدية، وغرام أوكتافيا، والولع بهيباتيا، والإيمان بالخرافات؟ فلا أدرى أطبيب أنا أم راهب .. مسيحى أم وثنى . جاءنى نباح كلب الحامية الرومانية قبالة بوابة الدير، فانتبهت لنزوعى الغافل لبدايات هرطقات تخايلنى من دراسة فلسفة قديمة نائية الآن عنى، ومن روح فيثاغورثية خارج حظيرة الرب كما حكم عليها.
كلما غفت روحى وذهبت لوسنات الماضى، كلما أوغلت فى أغنيات (مَرتا) الهامسة، أغنيات انتقلت تصدح فى (حلب)، وكلما أوغلت فيما صار فى (قسقام) و(سرمدة)، وما استجلبته ذاتى الملتبسة من كتب محرمة، وكلما أوغلت وولغت فى كلمات الفريسيّ، التى تنشأ من روح تتقلى، وغصت فى عبارات مطمئنة من فوق عمود العظات، وفى غيابة فقد (هيباتيا) ودروسها، التى تطن فى ضمير الإسكندرية، وتئن فى عقل الكون.


ها قد عدت لشوارد النفس، و لا سبيل للتخلص من كوامن العواصف ومكامن الذكريات، إلا بالقراءة فى الإنجيل. وشرعت أقرأ فى سفر إشعياء، حتى وصلت للآية الثامنة بالأصحاح الثانى والأربعون: أَنَا الرَّبُّ هذَا اسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ، وَلاَ تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ.
فقعدت أقدام تأملى عند عتبة بابها قليلا، ثم واصلت حتى : 17قَدِ ارْتَدُّوا إِلَى الْوَرَاءِ. يَخْزَى خِزْيًا الْمُتَّكِلُونَ عَلَى الْمَنْحُوتَاتِ، الْقَائِلُونَ لِلْمَسْبُوكَاتِ: أَنْتُنَّ آلِهَتُنَا! فاضطرم ذهنى واضطرب باطنى، وتذكرت تمثال العذراء وأنا أحتضنه. هل كان يفعل (هيبا) المسيحى أم بقايا (ثيوفراستوس) الوثنى ؟! آه يا (أوكتافيا) ويالمسمياتك اللعوب ! كنت صغيرًا جدا آنذاك .. على أن أصلى صلاة منتصف الليل لأطلب الغفران. سأطفئ السراج.
- كان (نسطور) محقا عندما اعترض على جعل الله واحدا من ثلاثة. هه !
- (عزازيل) ! لا ليس هذا وقتا مناسباً.
- لن أمل من أن أكرر لك يا (هيبا). فكما سكنت أنت صومعة الرهاوى تداوى الحجاج، أسكن أنا فيك وبك.. أتداوى بمناجاتك، فأنت الذى تستجلبنى؛ ومن ثَم لشغافك أتزحف.
- ولماذا أستدعيك وأنا أفكر فى آيات الإنجيل والصلاة للإله؟ أم لعله ذكر (أوكتافيا) وذنب (أوكتافيا)؟
- أنت تعرف أنها كانت طاهرة. أنت تعرف أنكم فقط نقضتم وصية ترك الأصنام المسبوكة !
- وما أنت حتى تكلمنى عن الكلام المقدس، ما أنت إلا نقيض الرب .. فعن أى نقيض تتحدث؟
- النقيض الذى جعلتموه فى تأليه القديسة العذراء. حتى (يسوع) نفسه.. أخبرنى كيف هو الإله وقد عمده (يوحنا) المعمدان فى نهر الشريعة؟ ولماذا لا يوجد فى الأناجيل كلها نص يدعو لعبادة (يسوع)؟ حتى المسيح لم يأت عنه نصًا يدعو فيه لعبادته شخصيًا، أو يشرح فيه ما جاءك من تثليث يا (هيبا)، بل قال بالنص : "بالحق قلت ، لأنه الله واحد ، وليس آخر سواه !" .
- اصمت . أفلا تجيد شيئا آخر سوى هدم عقيدة الإيمان القويم ؟ كيف تتبجح هكذا أمام الرب تَمجد اسمه ؟
- أى رب؟ ذاك الذى صُلب؟ ولماذا قصة صلبه تشبه بالضبط قصة صلب (كريشنا)، ولماذا سميتم أمه بأم الإله، مثلما أطلق الوثنيين ذلك على العذراء (ديفاكى) أم (كريشنا)؟
    أم لعل أصل ربكم هو (بوذا) المولود من العذراء (مايا)، والذى ظهر فى الأرض بالناسوت لينقذ العالم من خطاياه ؟
     أم أنه استنساخ للإله المصرى الشهير والقوى، (آمون) ذو الأقانيم الثلاثة القديمة؟ 
- لقد تفحشت غاية الفحش يا (عزازيل)، فاصمت أيها اللعين .
- سأصمت . ولكن إن كانت هذه هرطقات وفحش فلماذا تدونها؟
- فى هذه عندك حق يا ملعون، سأغسل هذا الرق .. سأمزقه ولن أضعه فى ذاك الصندوق الخشبى المحلى بالنقوش النحاسية.
- وفر وقتك يا (هيبا) للذهاب الى (حلب). (مَرتا) الحُلوة ازدادت فتنة وجمالا.
- اصمت . ووفر عليك أنت حثى على الشهوات. أنا باق.
- من تباعد من الشهوات جهل سرها يا (هيبا)، ومن ارتحل لم ينتقل.

لقد تحدث (عزازيل) معى طويلا أكثر مما ينبغى.
سأمزق هذا الرق الكفرى.

***
تتلمُذ من وحى رواية " عزازيل " العظيمة . اهداء لأستاذى د. (يوسف زيدان) .
وكان أن رد الأستاذ تعليقا على النص بكلمتين مقتضبتين شكرته عليهما كثيرا : " اقتحام لطيف " .


تعليقات

‏قال غير معرف…
اسلوب راقي جميل لا يقل عن اسلوب يوسف زيدان
‏قال عصام منصور
شكرا جزيلا . وأنا مجرد تلميذ له من تلامذته العديدون .
تحياتى :)

المشاركات الشائعة