مرثية



ماتت حبيبتى

588 رحلت ساكنة العمارة
رحلت أمى الثانية .. بل الأولى .. فأم الأم هى أول أم ، ولولاها لما كانت الأم ، ولذا فهى أيضاً أنجبتنى وربتنى وأسبغت على من حنانها
لتسعة وعشرين سنة فعلت

ماتت حبيبتى
(تيتة زوزو) أغمضت عيونها فى الرابعة من فجر يوم جليدى البرودة، لتواجهنا حقيقة أننا لم يعد لنا جدود وجدات مباشرين
لتواجهنى أنا حقيقة يُتم من طراز فريد موحش، يُتم أن تأخذ عزاء أمك ، بينما أمك على قيد الحياة !



ماتت حبيبتى
وحزن الدنيا لم يردع القلم على أن يسكب عبراته، ويرثى أعظم النساء
مالنا لا نتذكر أمهاتنا وجداتنا إلا بعد الرحيل ؟ أى قسوة تلك ؟
أعرف يا أمى الأولى أننى مقصر، فلقد اتصلت بى منذ أيام قبل الرحيل بقليل، لتخبريننى أنك ستجهزين لى (صينية الباشامل) التى أحب، ولقد وعدتك بالحضور ولم أفعل
أى غباء !
ولكنك جهزتيها وصنعتيها على عينيك، وأنا أظن أن فى العمر بقية تسمح بصينية .. أخرى .. لكنها كانت العزومة الأخيرة .. لن تتضايقى منى أننى لم أحضر قبل ذهابك، فأنا أعرف تمام اليقين أن قلبك الذى وسع العائلة كلها سيسامحنى .. قلبك الكبير لم يمت كما مات جسدك ..

ماتت حبيبتى
وعندما قبلت رأسها ، وجدت ملمس جبهتها بارداً.. أخشى أننا تركناك وحدك كثيرا فى شقتك وسط هذه البرودة يا أمى
لكنك كنتِ رفضتى أن تثقلى علينا. كان لك كرامة مذهلة. ورفضتى مرارا وبعناد أن تسكنى مع أبناءك وأسرهم فى بيوتهم الكبيرة، وذلك حتى لا تشغليهم باحتياجات المسنين الطبية، وبقيت فى شقتك الواسعة وحيدة ، برفقة أسطوانة الأكسجين ..
كنت تعرفين أن الله يطهرك ويصطفيك، ويزيل عنك ما علق بك من حطام الدنيا من سيئات، فكنت تأتنسين بالمعية
ولكن كيف تعلق بك سيئات وأنت التى كنتِ تحرصين على الوضوء أشد الحرص، مما أسقطك عدة مرات فى الحمام وأصابك هذا بكدمات مؤلمة، وكنتِ تعتمرين الى البيت الحرام أكثر من مرة، معاندة كل ظروفك الصحية الصعبة. تحلمين كل مرة بالمرة الجديدة، التى ستزورين فيها حبيبك المصطفى؟! ويبدأ حلمك هذا بمجرد عودتك ووصولك الى المطار حيث ننتظرك
 كيف تعلق بك السيئات، وأنتِ التى كنتى تسألين عن كل كبيرة وصغيرة فى عائلتنا الكبيرة، التى أنتِ ربتها، فتصالحين هذه على زوجها ، وتطيبين خاطر هذا على ولده، وتسألين عن أدق أخبار الأبناء والأحفاد، وأبناء الأقارب وأحفادهم وأحيانا جيرانهم ؟
كيف وأنت التى كنتى لا تغضبين أى شخص مهما قصر معك ، والتى كنتى تضحكين للجميع ، وتتبسمى فى وجوه الكل ابتسامتك الشهيرة ؟

ماتت حبيبتى
وكل كلام الدنيا لا يكفى لرثائها ، وكل اشتياق الأهل لا يكفى للدعاء لها، بما هى أهل له من رحمة خالقنا القدير المنان
كلا لا وقت كى تغرورق عيناى بالدمع، فأنا من نوع يرتدى النظارات، وهذا يفسد الرؤية تماما
ضريبة الرجولة أنك لا يمكن أن تبكى .. فإن بكيت ستهتز عاطفيا وفسيولوجيا ، وتلك الأمور بحاجة لإرادة قوية، وتماسك لا نهائى لا يعرف الإهتزازات. ستعرف أن تجهيزك لتصريح الدفن واجاراءات الغسل والجنازة حتى نزول القبر لوضع الجثمان المسجى فى المستراح الأخير ..
 كلها أمور لا يمكن أن يفعلها شخص عاطفى .. إنها ضريبة الرجولة . يمكنك أن تحسد النسوة هنا فى أنهن يإمكانهن تفريغ انفعالهن كله عبر الأدمع والعبرات.
يقول لك خالك فى سرادق العزاء، أنه يتوجب عليك الدخول الى القاعة من البرد الشديد، بدلا من استمرار وجودك بجوار لافتة العزاء الخارجية طوال الوقت ، فترفض .
يطلب منك الساقى أكثر من مرة أن تتناول فناجين القهوة والشاى أو حتى بعض الماء ، فترفض . لا يعرفون أن برد الليل القارس ، هو أفضل شئ يحافظ على ابقاء نيران حزنك الداخلية أقل اضطراما وتأججا، فلا تتحول الى ثورة غضب وانهيار 
الآن من سيعطينى العيدية فى عيد الفطر المقبل يا أمى بعد رحيلك ؟ من ؟
من سيضحكنا بتعليقاته الطريفة وانتقاداته المستمرة لشباب الجيل الحالى ، وممثلات ومذيعات التلفزيون مفرطة الزينة ؟
من سنحصل منه على بركتنا ؟
ومن سيهتف -بلا انقطاع- مناديا (زياد) الصغير ألا يسقط طعامه على الأرض ؟
ومن سنقضى عنده أول أمسيات رمضان كعادة كل عام بعد أن تركتى بيتك ، بيت العائلة ومقر تجمعها فى المقابلات والمناسبات وأعياد الميلاد ؟
لماذا تركتى شقتك الرحبة وتوجهتى لذلك المكان الجديد الضيق ؟
وهل تسمعين حوارى معك الآن ؟ أعرف أن سمع أذنك اليسرى كان ضعيفا، انتظرى سأنتقل للناحية اليمنى حتى تسمعيننى بشكل أفضل .. هه ! ما رأيك ؟ لكن لحظة ! 
لست هنا .. لست هنا يا حبيبتى


ماتت حبيبتى ساكنة العمارة 588

ماتت جدتى

https://www.facebook.com/note.php?saved&&note_id=10152435249890615#!/notes/essam-mansour/%D9%85%D8%B1%D8%AB%D9%8A%D8%A9/10152406499555615

تعليقات

المشاركات الشائعة