الفصل الرابع كاملا: وقت الموت




4- وقت الموت ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ













من أعلى                         From Up

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



قبل النهاية ..




قد يحدث الكثير .. أكثر مما نتخيل ..



*     *     *



الأطباء يؤكدون أن مادة ( الإيبنفرين ) – ( الأدريبنالين ) – ذلك الهرمون الذى تنتجه الغدة الكظرية ، و الذى يزداد إفرازه فى العروق مع التوتر و الإنفعال ، تتضاعف معه دقات القلب و سرعة جريان الدم فى الأوردة ، و تتلاحق الأنفاس ، و تبلغ سرعة الإستجابة حداً مذهلاً ، يجعل المرء قادراً على إتيان ما يعجز عنه فى الظروف العادية .. دون أن يتجاوز قدرات الجسد ..



*     *     *



انتفض ( رءوف ) و قائد الأمن مع صرخة ( نادر ) الهائلة و القوية و المخيفة ..



ثم تدلت فكوكهم فى ذهول ، عندما انقض الشاب الثائر على باب المصعد السميك ، و حطمه بساعده بضربتين بالغتى القوة و العنف ، الى حد هائل ، قبل أن ينطلق عدواً كالصاروخ على ضوء المصباح اليدوى ..



قفز على الدرج بسرعة عجيبة ، هاتفاً بـ ( ماجدة ) و ( هالة ) معاً عبر الموجة العامة بين الفريق :

- ( ماجدة ) وافينى بأفكاره مباشرة .. و أنت يا ( هالة ) ارشدينى الى مكانه ثم الحقى بى ، حاولى الحصول على القنبلة و تأمينها .. هل يمكنك هذا ؟!



أجابته فى تردد :

- يمكننى لكننى لا أضمن خطورة تسليحه .



قال لها فى صرامة :

- دعى لى هذه النقطة .



قالت فى ارتباك :

- و لكن ..!



قاطعها صوت ( رءوف ) يأمرها بلهفة و حسم :

- نفذى طلبه بلا مناقشة .. الآن .



عبر ( نادر ) الطوابق الخمس الى الطابق السادس بسرعة البرق ، و ( ماجدة ) تقول له عبر أداة الإتصال المثبتة على أذنه :

- إننى التقط أفكاره و أنا أصعد باتجاهه .. يبدو أنه يأسر موظفة أرشيف ، إنها تدله على سلاح يدوى ذو قوة تدميرية كبيرة بقسم ( الإبتكارات الأمنية ) ، و هما يتجهان نحو الورشة ( 5 ) .



مع آخر حروفها كان ( نادر ) يصل لباب قسم الإبتكارات ، و يرى ( هالة ) تصل معه تقريباً بلا مصباح يدوى ، و ( ماجدة ) تواصل بسرعة :

- تجاوزا الورش الأربع الأولى .. لقد حصل على بغيته التى ينوى الهرب بها .. حاولا إنقاذ الموظفة .



انطلقا نحو الورشة الخامسة ، و ( ماجدة ) تخبرهما بموقع ( فخرى ) بدقة كأنما يرياه ، ثم اقتحماها بعنف مباغت وسط الظلمة ..



و التفت اليهما ( فخرى ) بوحشية ، و هو يلقى الموظفة جانباً ، و لكن ( هالة ) كانت تنقض أولاً بقفزة خارقة ، تعلقت بها بهدفها .. حقيبة القنبلة على ظهره ..



و انتزعتها ..



و سقطت بها بعيداً عنه ..



و جن جنون ( فخرى ) مع الهجوم المفاجئ ، فصرخ و هو يصوب اسلاح المخيف نحو ( هالة ) :

- اذهبى الى الجحيم .



قفز ( نادر ) قفزة عملاقة و ركل السلاح المدمر من يده ، قائلا فى غضب :

- نسيتنى أيها القاتل الحقير .



ثم حمله من عنقه بيد واحدة ، و ألقاه بإمتداد ذراعه ، فسقط جسد العالم فوق منضدة زجاجية كبيرة ، و حطمها بصوت حاد ، و لكنه اعتدل رغم ذلك بسرعة الفهد ، و وحشية التماسيح ، و التقط من حزامه قنبلة يدوية ، صارخاً :

- اذهبوا جميعكم الى الجحيم .. الى أبشع جحيم .



وثب ( نادر ) من جديد ، وثبة تجاوز بها الأمتار الست ، على نحو مذهل للغاية ، و لا يصدقه عقل لا يحلم أو يتخيل ، و ركل القنبلة من يد ( فخرى ) فى عنف ، حطم به ثلاثة من أصابعه ، ثم هوى بمرفقه على ضلوعه ، ليكسر ضلعان بصوت مكتوم بشع ، صرخ معه ( فخرى ) بألم رهيب ، ثم قذف وجه ( نادر ) بشئ ما صغير ، و انطلق يعدو على الضوء الخافت المتسلل عبر النافذة القريبة ، الى خارج الورشة ..



و حملت ( هالة ) القنبلة النووية المحدودة بالحقيبة فى يد ، و الموظفة التى فقدت وعيها من الرعب بذراعها الأخرى ، و انطلقت تعدو على نحو بدا بطيئاً عجيباً بالنسبة لـ ( نادر ) ، مغادرة الورشة ..



و هو يتساءل : ترى لماذا ؟ هل ستطارد ( فخرى ) ، و هى تحمل الموظفة بهذه القوة المدهشة ؟!!



أم ماذا ؟!



و جائه الجواب على لسان ( هالة ) نفسها و هى تضرخ :

- أجر يا ( نادر ) القنبلة .. القنبلة .



تساءل – مجدداً – فى ارتباك عجيب هو أصابه ، و جعله يشعر و كأنه يرى كل الأحداث من أعلى ..



من خارجها ..



بلا مشاركة ..



أية قنبلة ؟ أليست القنبلة النووية معها فى أمان ؟!



ثم فجأة تلاشى ذلك البطء ..



انسحب عندما تبين له ذلك الشئ الصغير الذى رماه به ( فخرى ) ..



فتيل القنبلة اليدوية ..



و نهض ( نادر ) على قدميه فى سرعة ، و ..!



و انفجرت قنبلة ( فخرى ) الثانية لتلك الليلة ..



و دفعت موجة الإنفجار التضاغطية العنيفة جسده ، مصحوبة بعاصفة من الشظايا و اللهب و الدخان ، ليطير كالدمية ، و يخترق زجاج النوافذ العريضة ، و يتجاوزها بسرعة الى الخارج ..



ليسقط جسده من الطابق السادس ..



*     *     *



دفع الإنفجار ( فخرى ) و ( هالة ) و الموظفة الى خارج الورشة ، و لم تكد ( هالة ) تعتدل ، حتى فوجئت بـ ( فخرى ) يصوب نحوها السلاح المدمر ، الذى طار نحوه مع الإنفجار ، قائلاً بشراسة جنونية بصوته الخشن :

- على أن استعيد منك شئ ما .



ثم أطلق السلاح الجديد ..



و انطلقت من فوهته طلقة قاتلة ، اخترقت معدتها ، و نفذت من الناحية الأخرى مخلفة فجوة كبيرة مخيفة ، و واصلت إنطلاقها كما لو كانت صاروخ صغير ، و اخترقت فى طريقها أربعة جدران ، قبل أن تنسف قسم الإبتكارات بأكمله ، بدوى أيقظ ربع سكان المدينة ، صانعة تجويفاً عملاقاً بعرض الطابق كله ، يطل على الشارع ..



و أطاح الإنفجار بـ ( هالة ) و الموظفة حتى أن جسديهما قد ارتفعا لقرب السقف ، قبل أن يهويا بعيداً كالحجارة ، لتقضى الموظفة نحبها فى هدوء ..



بينما نجا ( فخرى ) من الإنفجار الرهيب ، عندما سقط جسده داخل حوض من سبيكة من الرخام و الرصاص ، و النيران تشتعل حوله فى عدة أشياء ..



استقر جسده للحظات فى تهالك أشبه بالموت ، قبل أن يصرخ بألم مبرح ، و كأنه يعانى من عذاب العالم كله ، متحسساً ضلعيه المكسورتان بأصابع مرتجفة أو مكسورة بفعل ضربة ( نادر ) ، ثم نهض بصعوبة و تأمل الطابق الذى تكاد دعائمه أن تتقوض ، و أطلق صرخة ألم لا يحتمل جديدة ، ثم لهث و غمغم :

- لابد أن أختفى ، بأقصى سرعة ممكنة .



و فى لهفة بحث عن حقيبة القنبلة النووية المحدودة ، ثم عثر عليها وسط الحطام و الدمار البشع ، الذى حل بالطابق كله ، و عيناه تلتمعان بنظرة سعادة مجنونة رغم الألم ، قائلا فى تشفى هستيرى :

- آه .. لن تمنعونى من الإنتقام .. الموت لكم .. الموت للجميع ، سأستمتع بما سأفعله بكم .



« الشعور متبادل أيها الشيطان الكريه » ..



التفت ( فخرى ) فى ذعر مجنون الى القائل ، فرأى ( رءوف ) يصوب اليه مسدسه ، و من خلفه تظهر ( ماجدة ) و هى تحدجه بنظرة مقت ، ثم يظهر ( سمير ) و قائد الأمن ، يرمقاه بنظرات ملؤها الظفر و الشماتة معاً ، فتجاهل المسدس و دفع أصابعه نحو القنبلة النووية صارخاً بهستيرية :

- لن تستطيعوا قتلى ، الشيطان أخبرنى بسر العودة من الموت ..!



ثم راح يضحك بجنون حقيقى ، و ( رءوف ) يسأل ( ماجدة ) دون أن يرفع عينيه عنه :

- هل يمكنه هذا ؟



قالت مضيقة عيناها :

- لقد جن تماماً لكنه مستعد لهدم المعبد على الجميع بحق .



أدرك ( رءوف ) أنه لا يمكنه أن يخاطر ، و وسط ضحكته الأخيرة العالية غمغم فى مقت :

- كفاك أيها المعتوه البغيض .



و أطلق رصاصته التى اخترقت عنقه فى قسوة ، ليتفجر نبعين من الدم القانى ، من موضعى دخول و نفاذ الرصاصة ، فجحظت عينا العالم المجنون أكثر و أكثر ، قبل أن يسقط على قيد متر من القنبلة النووية المحدودة ..



و قد تجمدت ضحكته على وجهه ..



و فى امتعاض أشاحت ( ماجدة ) بوجهها ، قائلة :

- إنها نهايتك أيها البغيض .



جال ( سمير ) ببصره وسط دمار المكان ، قائلاً فى قلق :

- أخشى أننا فقدنا ( نادر ) ، لست أجده .



قال ( رءوف ) و هو يعيد مسدسه الى غمده :

- لقد كان ثائراً عنيفاً ، بسبب تلك العملية التى يشير اليها ملفه لا ريب ، و لا شك أن عنفه قد أودى به .



وقفت ( ماجدة ) أمام جسدى ( هالة ) و الموظفة الساكنين ، قائلة بأسف عميق :

- إنها ليست خسارتنا الوحيدة لهذه الليلة الدموية ، و لكن عزائنا أننا استعدنا القنبلة النووية ، و قضينا على ذلك الوغد .



قالت كلمتها الأخيرة و هى تنظر الى جثة الدكتور ( فخرى وحيد ) ، و التى غرق نصفها العلوى فى بركة كبيرة من دمائه الداكنة اللزجة ..



جثة عالم مريض ، نصف عبقرى و نصف مجنون ..



و لكن من يدرى ؟ .. ربما تبين فيما بعد ، أن نصفه العبقرى ، ربما ليس بهذه السهولة ..



قط ..



*     *     *















العودة .. Return             

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



كأنها تحت سطح بحر ..



*     *     *



« يالك من مؤمن مثالى » ..



*     *     *



أعاد قسم ( العناصر الخاصة ) القنبلة العسكرية الى وزارة الدفاع ..



رجح فريق البحث الجنائى التابع للقسم – فى الفحص الأولى -  احتراق ( نادر ) عن آخره فى الإنفجارين ، الناتجين عن القنبلة اليدوية ، و قذيفة السلاح المصنوعة من المفجر الشديد ( سى – 4 ) ..



نقلت جثة العالم ( فخرى وحيد ) الى مشرحة تابعة لمستشفى عسكرى ..



*     *     *



الواحدة صباحاً .. الخامس من شهر ( سبتمبر ) .. مستشفى ( مصر الجديدة ) العسكرى .. المشرحة ..



ارتدى الطبيب الشرعى قفازى التشريح المطاطين ، و هو يقول لمساعده الشاب داخل قاعة التشريح ، و قبالة جثة الدكتور ( فخرى ) الممددة فوق منضدة الفحص :

- يبدو و كأنما هاجمه مصاص دماء ضخم .



ابتسم المساعد ، و أشار للثقبين فى العنق قائلاً :

- ياله من فك مقوس للغاية .



أشار الطبيب له كى يحضر آلة التصوير ، قائلاً فى اهتمام :

- لست اقصد مدخل و خرج الرصاصة ، و لكنى عنيت فى الواقع ذلك الزرقان الذى يتجاوز الشحوب العادى ، مما يوجى بإختفاء كل الدم فى الجسم .



تلاشت ابتسامة المساعد الجديد على الفور ، مع ملاحظة الطبيب التى ضايقه أن لم ينتبه إليها ، بينما تناول الطبيب محقنا شفافا ، و غرسه فى أحد شرايين المعصم الأيسر الكبيرة ، فلم يحصل إلا على ملليمترات قليلة من الدم ..



حدق فى المحقن بدهشة ، و هو يقول :

- انظر .. المحقن خالى تقريباً ، أمتأكد أنهم أحضروه على الفور ؟!



أسرع المساعد يناوله ورقة كبيرة ، قائلاً فى حيرة :

- التقرير الأولى كما ترى يا سيدى ، يشير الى سرعة إحضاره و إصابته برصاصة واحدة ، خلفت فى موقع الجثة ستة لترات من الدماء !



هتف الطبيب فى إنفعال ، و هو يلتقط التقرير و يحدق فيه :

- ستة لترات ؟! ياالهى ! لا يمكن أن تضخ عروقه كل هذه الكمية فى هذا الوقت القصير ، إلا لو أن قلبه ظل يعمل بمنتهى القوة و الحيوية ، و هذا مستحيل بالنسبة لجثة !



حدق المساعد فى وجهه بوجوم و ارتباك ، و شاهده يحاول سحب أية ملليمترات جديدة ، من الجثة المزرقة بالفعل ، حتى كون بصعوبة سنتيمتراً واحداً من دم شبه مسود ، ناوله إياه قائلاً فى إهتمام و سرعة :

- اذهب بالعينة الى المعمل على الفور لفحصها .



التقط المساعد المحقن و اتجه لمغادرة المكان ، و الطبيب يفتح دولاب أدواته ، لإلتقاط مشرط تشريح فاخر الشكل ، مغمغاً فى دهشة :

- مستحيل تصريف الدماء كلها من ثقبين بالعنق ، خلال دقائق الموت .. هذا غريب بحق .



أسقط وسط توتره و لهفته بضعة أنابيب اختبار بلاستيكية ، فإنحنى يلتقطها و المساعد يتوقف على الصوت قبل المغادرة ، و بينما الطبيب يجمعها قائلاً :

- هذا ما كان ينقصنى .



صاح المساهد بصوت متحشرج ظنه الطبيب يصدر من الجثة :

- رباه !



فانتفض فى ذعر ، و التفت الى مساعده ، هاتفاً فى عصبية حانقة :

- ماذا حل بك يا هذا ؟ هل صحا الميت أم ماذا ؟!



أجابه مساعده فى بهوت عظيم ، محدقاً بالفعل فى منضدة الفحص :

- ليته صحا فقط !



استدار طبيب التشريح فى امتقاع ، ليرى ما يقصده ، و ..!



و انتفض جسده تماماً ، و هو يتطلع فى ذهول الى منضدة التشريح الخالية ..



كما لو أن جثة الدكتور ( فخرى ) قد تبخرت ..



تماماً ..



*     *     *



الرابعة و النصف فجراً .. قسم ( العناصر الخاصة ) ..



قال مساعد رئيس القسم لهذا الأخير :

- لم نجد أثراً لجثته فى المنطقة بأسرها ، و قد وزعنا مواصفاته لكل رجل شرطة فى حى ( مصر الجديدة ) !



غمغم رئيس القسم مشبكاً أصابع كفيه أمام وجهه :

- رغم ملاحظة الطبيب الشرعى الغريبة عن تصريف دم الجثة ، إلا أننى أرى أن الجثة تعرضت للإختطاف لسبب ما .. ربما من أعوان سابقين للدكتور ( فخرى ) .



سأله المساعد فى اهتمام :

- و لكن لماذا ؟!



أجابه رئيس القسم مشيراً بسبابته :

- ربما لإثبات زعم ( فخرى ) السخيف السابق ، الخاص بعودته من الموت الى الحياة .



علق المساعد بتشاؤم :

- كانت ليلة ليلاء .



*     *     *



انبعث رنين هاتف ( رءوف ) المرئى فى منزله ، فامتدت سبابته و ضغطت زر التحدث فقط ، و هو يقول بنعاس بعد ليلة رهيبة حاول النوم بعد إنتهائها أخيراً :

- من المتحدث ؟!



آتاه صوت مألوف يقول :

- يمكنك رؤيتى مباشرة لتعرف شخصيتى .



خفق قلب ( رءوف ) و هو يضغط زر الرؤية ، قبل أن يطير كل أثر للنوم فى عيناه ، صائحاً :

- ( نـادر ) ؟!!



كان هو بالفعل بهيئة رثة مزرية ، يتحدث من هاتف عام ، و يقول بتعجل :

- إنه أنا بالفعل .. اسمعنى يا ( رءوف ) هل تتذكر سترة ذلك الوغد ، التى تشبثت بها ليلة أمس ؟! الواقع أننى احتفظت وقتها بفاتورة لم تكن ذات قيمة وقتها ، لكن عنوانها الذى وصلت اليه هو معمل ذلك الدكتور المجنون لا شك .



تلقى ( رءوف ) مكالمة على هاتفه الخاص ، و رآه ( نادر ) يشير له بالإنتظار ، ثم يستمع لحظات لمحدثه ، قبل أن تتسع عيناه فى إنفعال و هو ينهى المكالمة ، ثم يستدير اليه قائلاً فى لهفة و سرعة :

- يبدو أن تلك الليلة المرهقة لن تنتهى .. لقد اختفت جثة ( فخرى ) من المشرحة .



انعقد حاجبا ( نادر ) بشدة ، و هو يفهم أن الرجل قتل ، ثم اختفت جثته عبر معلومة واحدة ، و غمغم :

- ماذا ؟!



هتف ( رءوف ) بنفس انفعاله :

- نعم .. لقد قتلته بعد موتك .. آ .. ! اقصد بعد ظننا هذا ، و لكنه اختفى أو اختطف ، البحث و التحقيق جارى ، لكن أخبرنى كيف اختفيت أنت من المكان ؟!



أجابه ( نادر ) و هو يتلفت حوله :

- لقد أصبت قبل الإنفجار بحالة عجيبة ، لم أستطع تفسيرها حتى الآن ، لم تمكننى من الإبتعاد عن النوافذ فى الوقت المناسب ، فتفجرت فى قنبلة الوغد ، و دفعنى الإنفجار الى خارج المبنى ، و لكن ليس بعيداً جداً عن سطحه الخارجى ، فاستطعت الحركة فى الهواء بقدر الإمكان ، و التعلق بثنية أفقية فى الجدار ، و أعانتنى قدرتى السلبية ضد الألم ، على عدم الشعور بعشرات الشظايا ، كما أنه عندما إزداد الألم حدث شئ جديد ، إذ زادت سرعة إلتئام الجروح .. المهم لابد أن نتحرك بسرعة حالياً ، خاصة بعد فقدان جثته .



قال ( رءوف ) متسائلاً :

- نتحرك ؟! .. و أنت ؟!



« إننى الآن بالقرب من ذلك العنوان ، و أحتاج دعمكم .. و إليك بالعنوان »



قالها ( رءوف ) لرئيس القسم فى حماس مجهد ، على لسان ( نادر ) و هو يملى عليه العنوان الذى كان فى ( السادس من أكتوبر ) ، فغمغم رئيس القسم ، و علامات عدم النوم تبدو عليه بدوره :

- عجيب .. يبدو أن ملك الموت قد أعطى ذلك الشاب المدهش ، فرصة جديدة لمواصلة العمل معنا ، بعد أن جهزنا بالفعل تحضيرات جنازته .



قال المساعد الذى كان حاضراً ، و الإعجاب جلى فى نبرته :

- لقد أصبت يا سيدى ، إنه مدهش ذلك الشاب .. جداً .



قال المدير بلهفة حاسمة آمرة :

- حسناً يا ( رءوف ) ، لقد أثبت الشاب جدارته و استحق الثقة منذ العملية الأولى ، لذا فسأعطيكما القيادة المشتركة لتلك الجولة الثانية .. و التى أتمنى أن تكون الأخيرة ، مهما كانوا من وراء ( فخرى وحيد ) .



قال ( رءوف ) بوجه مفرود ، و صوت محايد لا يشف عن أى إنفعال :

- كنت سأشعر بالضيق و الأسف فى أى ظروف أخرى .



ثم لانت ملامحه ، و هو يقول بجذل أقرب الى التلذذ :

- و لكن مع هذا الشاب ، فسأشعر حتماً .. بالمتعة .



ثم شد قامته ، قائلاً بصرامته المعتادة :

- و أعدك يا سيدى أنها ستكون الجولة الأخيرة .. و الحاسمة .



*     *     *



ظلام ..



ظلام كثيف ..



كان يكتنف عقله و بصره ..



و كانت هناك قيود بمعصميه ..



قيود خشبية ..



كان آخر ما يتذكره ، هو حومه الحذر حول المبنى القصير ، فى ( السادس من أكتوبر ) ، و المحاط بالأسلاك الشائكة ، ثم تلقيه تلك الضربة الثقيلة ، و ..



يالها من قيود محكمة ..



« إنها متينة .. هه ؟! » ..



التفت رأسه فى حدة تجاه الصوت ، شاعراً بذلك القناع الأسود حول رأسه ، و الذى يمنعه من الرؤية و هو يقول :

- من ؟!



« ألم تتعرف صوتى بعد ؟! » ..



انعقد حاجبا ( نادر ) فى شدة ، مع الصوت المألوف الخشن الواضح ..



« لا تصدق .. أليس كذلك ؟! » ..



شعر ( نادر ) و كأنه يتذكر شيئاً ..



« أنا أيضاً لم أصدق وجودك ، خاصة بعد رؤياى بنفسى لإطاحة الإنفجار بك ، هذا يجعل هناك شيئاً مشتركا بيننا .. أليس كذلك ؟! » ..



كان هناك مشهداً يأتى ببطء الى رصيف ذاكرته ، و فى كل لحظة كان يتكون جزء منه ، كلوحة زيتية مكسوة بغبار ناعم ، تزيل منه الرياح شيئاً فشيئاً ..



« نعم .. إنه أنا » .



كان ( نادر ) يحوم حول المكان ، عندما تلقى الضربة ..



فالتفت الى ذلك الشخص ، و ..



و فى اللحظة التى تذكر ملامحه فيها ، انتزع ذو الصوت المألوف القناع القماشى من على وجهه ، قائلاً بإبتسامة مخيفة :

- ألم أقل لكم ؟!.. لقد عدت .. عدت من الموت .



حدق ( نادر ) فى ملامحه بتوتر كبير ، و هو يحاول بعنف انتزاع قيوده .. الخشبية ..



*     *     *



















تعليقات

المشاركات الشائعة