الفصل الرابع كاملا: وقت الموت
4- وقت الموت
..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أعلى From Up
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل النهاية ..
قد يحدث الكثير ..
أكثر مما نتخيل ..
*
* *
الأطباء يؤكدون أن
مادة ( الإيبنفرين ) – ( الأدريبنالين ) – ذلك الهرمون الذى تنتجه الغدة الكظرية ،
و الذى يزداد إفرازه فى العروق مع التوتر و الإنفعال ، تتضاعف معه دقات القلب و
سرعة جريان الدم فى الأوردة ، و تتلاحق الأنفاس ، و تبلغ سرعة الإستجابة حداً
مذهلاً ، يجعل المرء قادراً على إتيان ما يعجز عنه فى الظروف العادية .. دون أن
يتجاوز قدرات الجسد ..
*
* *
انتفض ( رءوف ) و قائد
الأمن مع صرخة ( نادر ) الهائلة و القوية و المخيفة ..
ثم تدلت فكوكهم فى
ذهول ، عندما انقض الشاب الثائر على باب المصعد السميك ، و حطمه بساعده بضربتين
بالغتى القوة و العنف ، الى حد هائل ، قبل أن ينطلق عدواً كالصاروخ على ضوء
المصباح اليدوى ..
قفز على الدرج بسرعة
عجيبة ، هاتفاً بـ ( ماجدة ) و ( هالة ) معاً عبر الموجة العامة بين الفريق :
- ( ماجدة ) وافينى
بأفكاره مباشرة .. و أنت يا ( هالة ) ارشدينى الى مكانه ثم الحقى بى ، حاولى
الحصول على القنبلة و تأمينها .. هل يمكنك هذا ؟!
أجابته فى تردد :
- يمكننى لكننى لا
أضمن خطورة تسليحه .
قال لها فى صرامة :
- دعى لى هذه النقطة .
قالت فى ارتباك :
- و لكن ..!
قاطعها صوت ( رءوف )
يأمرها بلهفة و حسم :
- نفذى طلبه بلا
مناقشة .. الآن .
عبر ( نادر ) الطوابق
الخمس الى الطابق السادس بسرعة البرق ، و ( ماجدة ) تقول له عبر أداة الإتصال
المثبتة على أذنه :
- إننى التقط أفكاره و
أنا أصعد باتجاهه .. يبدو أنه يأسر موظفة أرشيف ، إنها تدله على سلاح يدوى ذو قوة
تدميرية كبيرة بقسم ( الإبتكارات الأمنية ) ، و هما يتجهان نحو الورشة ( 5 ) .
مع آخر حروفها كان (
نادر ) يصل لباب قسم الإبتكارات ، و يرى ( هالة ) تصل معه تقريباً بلا مصباح يدوى
، و ( ماجدة ) تواصل بسرعة :
- تجاوزا الورش الأربع
الأولى .. لقد حصل على بغيته التى ينوى الهرب بها .. حاولا إنقاذ الموظفة .
انطلقا نحو الورشة
الخامسة ، و ( ماجدة ) تخبرهما بموقع ( فخرى ) بدقة كأنما يرياه ، ثم اقتحماها
بعنف مباغت وسط الظلمة ..
و التفت اليهما ( فخرى
) بوحشية ، و هو يلقى الموظفة جانباً ، و لكن ( هالة ) كانت تنقض أولاً بقفزة
خارقة ، تعلقت بها بهدفها .. حقيبة القنبلة على ظهره ..
و انتزعتها ..
و سقطت بها بعيداً عنه
..
و جن جنون ( فخرى ) مع
الهجوم المفاجئ ، فصرخ و هو يصوب اسلاح المخيف نحو ( هالة ) :
- اذهبى الى الجحيم .
قفز ( نادر ) قفزة
عملاقة و ركل السلاح المدمر من يده ، قائلا فى غضب :
- نسيتنى أيها القاتل
الحقير .
ثم حمله من عنقه بيد
واحدة ، و ألقاه بإمتداد ذراعه ، فسقط جسد العالم فوق منضدة زجاجية كبيرة ، و
حطمها بصوت حاد ، و لكنه اعتدل رغم ذلك بسرعة الفهد ، و وحشية التماسيح ، و التقط
من حزامه قنبلة يدوية ، صارخاً :
- اذهبوا جميعكم الى
الجحيم .. الى أبشع جحيم .
وثب ( نادر ) من جديد
، وثبة تجاوز بها الأمتار الست ، على نحو مذهل للغاية ، و لا يصدقه عقل لا يحلم أو
يتخيل ، و ركل القنبلة من يد ( فخرى ) فى عنف ، حطم به ثلاثة من أصابعه ، ثم هوى
بمرفقه على ضلوعه ، ليكسر ضلعان بصوت مكتوم بشع ، صرخ معه ( فخرى ) بألم رهيب ، ثم
قذف وجه ( نادر ) بشئ ما صغير ، و انطلق يعدو على الضوء الخافت المتسلل عبر
النافذة القريبة ، الى خارج الورشة ..
و حملت ( هالة )
القنبلة النووية المحدودة بالحقيبة فى يد ، و الموظفة التى فقدت وعيها من الرعب
بذراعها الأخرى ، و انطلقت تعدو على نحو بدا بطيئاً عجيباً بالنسبة لـ ( نادر ) ،
مغادرة الورشة ..
و هو يتساءل : ترى
لماذا ؟ هل ستطارد ( فخرى ) ، و هى تحمل الموظفة بهذه القوة المدهشة ؟!!
أم ماذا ؟!
و جائه الجواب على
لسان ( هالة ) نفسها و هى تضرخ :
- أجر يا ( نادر )
القنبلة .. القنبلة .
تساءل – مجدداً – فى
ارتباك عجيب هو أصابه ، و جعله يشعر و كأنه يرى كل الأحداث من أعلى ..
من خارجها ..
بلا مشاركة ..
أية قنبلة ؟ أليست
القنبلة النووية معها فى أمان ؟!
ثم فجأة تلاشى ذلك
البطء ..
انسحب عندما تبين له
ذلك الشئ الصغير الذى رماه به ( فخرى ) ..
فتيل القنبلة اليدوية
..
و نهض ( نادر ) على
قدميه فى سرعة ، و ..!
و انفجرت قنبلة ( فخرى
) الثانية لتلك الليلة ..
و دفعت موجة الإنفجار
التضاغطية العنيفة جسده ، مصحوبة بعاصفة من الشظايا و اللهب و الدخان ، ليطير كالدمية
، و يخترق زجاج النوافذ العريضة ، و يتجاوزها بسرعة الى الخارج ..
ليسقط جسده من الطابق
السادس ..
*
* *
دفع الإنفجار ( فخرى )
و ( هالة ) و الموظفة الى خارج الورشة ، و لم تكد ( هالة ) تعتدل ، حتى فوجئت بـ (
فخرى ) يصوب نحوها السلاح المدمر ، الذى طار نحوه مع الإنفجار ، قائلاً بشراسة
جنونية بصوته الخشن :
- على أن استعيد منك
شئ ما .
ثم أطلق السلاح الجديد
..
و انطلقت من فوهته
طلقة قاتلة ، اخترقت معدتها ، و نفذت من الناحية الأخرى مخلفة فجوة كبيرة مخيفة ،
و واصلت إنطلاقها كما لو كانت صاروخ صغير ، و اخترقت فى طريقها أربعة جدران ، قبل
أن تنسف قسم الإبتكارات بأكمله ، بدوى أيقظ ربع سكان المدينة ، صانعة تجويفاً
عملاقاً بعرض الطابق كله ، يطل على الشارع ..
و أطاح الإنفجار بـ (
هالة ) و الموظفة حتى أن جسديهما قد ارتفعا لقرب السقف ، قبل أن يهويا بعيداً كالحجارة
، لتقضى الموظفة نحبها فى هدوء ..
بينما نجا ( فخرى ) من
الإنفجار الرهيب ، عندما سقط جسده داخل حوض من سبيكة من الرخام و الرصاص ، و
النيران تشتعل حوله فى عدة أشياء ..
استقر جسده للحظات فى
تهالك أشبه بالموت ، قبل أن يصرخ بألم مبرح ، و كأنه يعانى من عذاب العالم كله ،
متحسساً ضلعيه المكسورتان بأصابع مرتجفة أو مكسورة بفعل ضربة ( نادر ) ، ثم نهض
بصعوبة و تأمل الطابق الذى تكاد دعائمه أن تتقوض ، و أطلق صرخة ألم لا يحتمل جديدة
، ثم لهث و غمغم :
- لابد أن أختفى ،
بأقصى سرعة ممكنة .
و فى لهفة بحث عن
حقيبة القنبلة النووية المحدودة ، ثم عثر عليها وسط الحطام و الدمار البشع ، الذى
حل بالطابق كله ، و عيناه تلتمعان بنظرة سعادة مجنونة رغم الألم ، قائلا فى تشفى
هستيرى :
- آه .. لن تمنعونى من
الإنتقام .. الموت لكم .. الموت للجميع ، سأستمتع بما سأفعله بكم .
« الشعور متبادل أيها
الشيطان الكريه » ..
التفت ( فخرى ) فى ذعر
مجنون الى القائل ، فرأى ( رءوف ) يصوب اليه مسدسه ، و من خلفه تظهر ( ماجدة ) و
هى تحدجه بنظرة مقت ، ثم يظهر ( سمير ) و قائد الأمن ، يرمقاه بنظرات ملؤها الظفر
و الشماتة معاً ، فتجاهل المسدس و دفع أصابعه نحو القنبلة النووية صارخاً بهستيرية
:
- لن تستطيعوا قتلى ،
الشيطان أخبرنى بسر العودة من الموت ..!
ثم راح يضحك بجنون
حقيقى ، و ( رءوف ) يسأل ( ماجدة ) دون أن يرفع عينيه عنه :
- هل يمكنه هذا ؟
قالت مضيقة عيناها :
- لقد جن تماماً لكنه
مستعد لهدم المعبد على الجميع بحق .
أدرك ( رءوف ) أنه لا
يمكنه أن يخاطر ، و وسط ضحكته الأخيرة العالية غمغم فى مقت :
- كفاك أيها المعتوه
البغيض .
و أطلق رصاصته التى
اخترقت عنقه فى قسوة ، ليتفجر نبعين من الدم القانى ، من موضعى دخول و نفاذ
الرصاصة ، فجحظت عينا العالم المجنون أكثر و أكثر ، قبل أن يسقط على قيد متر من
القنبلة النووية المحدودة ..
و قد تجمدت ضحكته على
وجهه ..
و فى امتعاض أشاحت (
ماجدة ) بوجهها ، قائلة :
- إنها نهايتك أيها
البغيض .
جال ( سمير ) ببصره
وسط دمار المكان ، قائلاً فى قلق :
- أخشى أننا فقدنا (
نادر ) ، لست أجده .
قال ( رءوف ) و هو
يعيد مسدسه الى غمده :
- لقد كان ثائراً
عنيفاً ، بسبب تلك العملية التى يشير اليها ملفه لا ريب ، و لا شك أن عنفه قد أودى
به .
وقفت ( ماجدة ) أمام
جسدى ( هالة ) و الموظفة الساكنين ، قائلة بأسف عميق :
- إنها ليست خسارتنا
الوحيدة لهذه الليلة الدموية ، و لكن عزائنا أننا استعدنا القنبلة النووية ، و
قضينا على ذلك الوغد .
قالت كلمتها الأخيرة و
هى تنظر الى جثة الدكتور ( فخرى وحيد ) ، و التى غرق نصفها العلوى فى بركة كبيرة
من دمائه الداكنة اللزجة ..
جثة عالم مريض ، نصف
عبقرى و نصف مجنون ..
و لكن من يدرى ؟ ..
ربما تبين فيما بعد ، أن نصفه العبقرى ، ربما ليس بهذه السهولة ..
قط ..
*
* *
العودة .. Return
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كأنها تحت سطح بحر ..
*
* *
« يالك من مؤمن مثالى
» ..
*
* *
أعاد قسم ( العناصر
الخاصة ) القنبلة العسكرية الى وزارة الدفاع ..
رجح فريق البحث
الجنائى التابع للقسم – فى الفحص الأولى -
احتراق ( نادر ) عن آخره فى الإنفجارين ، الناتجين عن القنبلة اليدوية ، و
قذيفة السلاح المصنوعة من المفجر الشديد ( سى – 4 ) ..
نقلت جثة العالم (
فخرى وحيد ) الى مشرحة تابعة لمستشفى عسكرى ..
*
* *
الواحدة صباحاً ..
الخامس من شهر ( سبتمبر ) .. مستشفى ( مصر الجديدة ) العسكرى .. المشرحة ..
ارتدى الطبيب الشرعى
قفازى التشريح المطاطين ، و هو يقول لمساعده الشاب داخل قاعة التشريح ، و قبالة
جثة الدكتور ( فخرى ) الممددة فوق منضدة الفحص :
- يبدو و كأنما هاجمه
مصاص دماء ضخم .
ابتسم المساعد ، و
أشار للثقبين فى العنق قائلاً :
- ياله من فك مقوس
للغاية .
أشار الطبيب له كى
يحضر آلة التصوير ، قائلاً فى اهتمام :
- لست اقصد مدخل و خرج
الرصاصة ، و لكنى عنيت فى الواقع ذلك الزرقان الذى يتجاوز الشحوب العادى ، مما
يوجى بإختفاء كل الدم فى الجسم .
تلاشت ابتسامة المساعد
الجديد على الفور ، مع ملاحظة الطبيب التى ضايقه أن لم ينتبه إليها ، بينما تناول
الطبيب محقنا شفافا ، و غرسه فى أحد شرايين المعصم الأيسر الكبيرة ، فلم يحصل إلا
على ملليمترات قليلة من الدم ..
حدق فى المحقن بدهشة ،
و هو يقول :
- انظر .. المحقن خالى
تقريباً ، أمتأكد أنهم أحضروه على الفور ؟!
أسرع المساعد يناوله
ورقة كبيرة ، قائلاً فى حيرة :
- التقرير الأولى كما
ترى يا سيدى ، يشير الى سرعة إحضاره و إصابته برصاصة واحدة ، خلفت فى موقع الجثة
ستة لترات من الدماء !
هتف الطبيب فى إنفعال
، و هو يلتقط التقرير و يحدق فيه :
- ستة لترات ؟! ياالهى
! لا يمكن أن تضخ عروقه كل هذه الكمية فى هذا الوقت القصير ، إلا لو أن قلبه ظل
يعمل بمنتهى القوة و الحيوية ، و هذا مستحيل بالنسبة لجثة !
حدق المساعد فى وجهه
بوجوم و ارتباك ، و شاهده يحاول سحب أية ملليمترات جديدة ، من الجثة المزرقة
بالفعل ، حتى كون بصعوبة سنتيمتراً واحداً من دم شبه مسود ، ناوله إياه قائلاً فى
إهتمام و سرعة :
- اذهب بالعينة الى
المعمل على الفور لفحصها .
التقط المساعد المحقن
و اتجه لمغادرة المكان ، و الطبيب يفتح دولاب أدواته ، لإلتقاط مشرط تشريح فاخر
الشكل ، مغمغاً فى دهشة :
- مستحيل تصريف الدماء
كلها من ثقبين بالعنق ، خلال دقائق الموت .. هذا غريب بحق .
أسقط وسط توتره و
لهفته بضعة أنابيب اختبار بلاستيكية ، فإنحنى يلتقطها و المساعد يتوقف على الصوت
قبل المغادرة ، و بينما الطبيب يجمعها قائلاً :
- هذا ما كان ينقصنى .
صاح المساهد بصوت
متحشرج ظنه الطبيب يصدر من الجثة :
- رباه !
فانتفض فى ذعر ، و
التفت الى مساعده ، هاتفاً فى عصبية حانقة :
- ماذا حل بك يا هذا ؟
هل صحا الميت أم ماذا ؟!
أجابه مساعده فى بهوت
عظيم ، محدقاً بالفعل فى منضدة الفحص :
- ليته صحا فقط !
استدار طبيب التشريح
فى امتقاع ، ليرى ما يقصده ، و ..!
و انتفض جسده تماماً ،
و هو يتطلع فى ذهول الى منضدة التشريح الخالية ..
كما لو أن جثة الدكتور
( فخرى ) قد تبخرت ..
تماماً ..
*
* *
الرابعة و النصف فجراً
.. قسم ( العناصر الخاصة ) ..
قال مساعد رئيس القسم
لهذا الأخير :
- لم نجد أثراً لجثته
فى المنطقة بأسرها ، و قد وزعنا مواصفاته لكل رجل شرطة فى حى ( مصر الجديدة ) !
غمغم رئيس القسم
مشبكاً أصابع كفيه أمام وجهه :
- رغم ملاحظة الطبيب
الشرعى الغريبة عن تصريف دم الجثة ، إلا أننى أرى أن الجثة تعرضت للإختطاف لسبب ما
.. ربما من أعوان سابقين للدكتور ( فخرى ) .
سأله المساعد فى
اهتمام :
- و لكن لماذا ؟!
أجابه رئيس القسم
مشيراً بسبابته :
- ربما لإثبات زعم (
فخرى ) السخيف السابق ، الخاص بعودته من الموت الى الحياة .
علق المساعد بتشاؤم :
- كانت ليلة ليلاء .
*
* *
انبعث رنين
هاتف ( رءوف ) المرئى فى منزله ، فامتدت سبابته و ضغطت زر التحدث فقط ، و هو يقول
بنعاس بعد ليلة رهيبة حاول النوم بعد إنتهائها أخيراً :
- من المتحدث
؟!
آتاه صوت
مألوف يقول :
- يمكنك رؤيتى
مباشرة لتعرف شخصيتى .
خفق قلب ( رءوف ) و هو
يضغط زر الرؤية ، قبل أن يطير كل أثر للنوم فى عيناه ، صائحاً :
- ( نـادر ) ؟!!
كان هو بالفعل بهيئة
رثة مزرية ، يتحدث من هاتف عام ، و يقول بتعجل :
- إنه أنا بالفعل ..
اسمعنى يا ( رءوف ) هل تتذكر سترة ذلك الوغد ، التى تشبثت بها ليلة أمس ؟! الواقع
أننى احتفظت وقتها بفاتورة لم تكن ذات قيمة وقتها ، لكن عنوانها الذى وصلت اليه هو
معمل ذلك الدكتور المجنون لا شك .
تلقى ( رءوف ) مكالمة
على هاتفه الخاص ، و رآه ( نادر ) يشير له بالإنتظار ، ثم يستمع لحظات لمحدثه ،
قبل أن تتسع عيناه فى إنفعال و هو ينهى المكالمة ، ثم يستدير اليه قائلاً فى لهفة
و سرعة :
- يبدو أن تلك الليلة
المرهقة لن تنتهى .. لقد اختفت جثة ( فخرى ) من المشرحة .
انعقد حاجبا ( نادر )
بشدة ، و هو يفهم أن الرجل قتل ، ثم اختفت جثته عبر معلومة واحدة ، و غمغم :
- ماذا ؟!
هتف ( رءوف ) بنفس انفعاله
:
- نعم .. لقد قتلته
بعد موتك .. آ .. ! اقصد بعد ظننا هذا ، و لكنه اختفى أو اختطف ، البحث و التحقيق
جارى ، لكن أخبرنى كيف اختفيت أنت من المكان ؟!
أجابه ( نادر ) و هو
يتلفت حوله :
- لقد أصبت قبل
الإنفجار بحالة عجيبة ، لم أستطع تفسيرها حتى الآن ، لم تمكننى من الإبتعاد عن
النوافذ فى الوقت المناسب ، فتفجرت فى قنبلة الوغد ، و دفعنى الإنفجار الى خارج
المبنى ، و لكن ليس بعيداً جداً عن سطحه الخارجى ، فاستطعت الحركة فى الهواء بقدر
الإمكان ، و التعلق بثنية أفقية فى الجدار ، و أعانتنى قدرتى السلبية ضد الألم ، على
عدم الشعور بعشرات الشظايا ، كما أنه عندما إزداد الألم حدث شئ جديد ، إذ زادت
سرعة إلتئام الجروح .. المهم لابد أن نتحرك بسرعة حالياً ، خاصة بعد فقدان جثته .
قال ( رءوف ) متسائلاً
:
- نتحرك ؟! .. و أنت
؟!
« إننى الآن بالقرب من
ذلك العنوان ، و أحتاج دعمكم .. و إليك بالعنوان »
قالها ( رءوف ) لرئيس
القسم فى حماس مجهد ، على لسان ( نادر ) و هو يملى عليه العنوان الذى كان فى (
السادس من أكتوبر ) ، فغمغم رئيس القسم ، و علامات عدم النوم تبدو عليه بدوره :
- عجيب .. يبدو أن ملك
الموت قد أعطى ذلك الشاب المدهش ، فرصة جديدة لمواصلة العمل معنا ، بعد أن جهزنا
بالفعل تحضيرات جنازته .
قال المساعد الذى كان
حاضراً ، و الإعجاب جلى فى نبرته :
- لقد أصبت يا سيدى ،
إنه مدهش ذلك الشاب .. جداً .
قال المدير بلهفة
حاسمة آمرة :
- حسناً يا ( رءوف ) ،
لقد أثبت الشاب جدارته و استحق الثقة منذ العملية الأولى ، لذا فسأعطيكما القيادة
المشتركة لتلك الجولة الثانية .. و التى أتمنى أن تكون الأخيرة ، مهما كانوا من
وراء ( فخرى وحيد ) .
قال ( رءوف ) بوجه
مفرود ، و صوت محايد لا يشف عن أى إنفعال :
- كنت سأشعر بالضيق و
الأسف فى أى ظروف أخرى .
ثم لانت ملامحه ، و هو
يقول بجذل أقرب الى التلذذ :
- و لكن مع هذا الشاب
، فسأشعر حتماً .. بالمتعة .
ثم شد قامته ، قائلاً
بصرامته المعتادة :
- و أعدك يا سيدى أنها
ستكون الجولة الأخيرة .. و الحاسمة .
*
* *
ظلام ..
ظلام كثيف ..
كان يكتنف عقله و بصره
..
و كانت هناك قيود
بمعصميه ..
قيود خشبية ..
كان آخر ما يتذكره ،
هو حومه الحذر حول المبنى القصير ، فى ( السادس من أكتوبر ) ، و المحاط بالأسلاك
الشائكة ، ثم تلقيه تلك الضربة الثقيلة ، و ..
يالها من قيود محكمة
..
« إنها متينة .. هه ؟!
» ..
التفت رأسه فى حدة
تجاه الصوت ، شاعراً بذلك القناع الأسود حول رأسه ، و الذى يمنعه من الرؤية و هو
يقول :
- من ؟!
« ألم تتعرف صوتى بعد
؟! » ..
انعقد حاجبا ( نادر )
فى شدة ، مع الصوت المألوف الخشن الواضح ..
« لا تصدق .. أليس
كذلك ؟! » ..
شعر ( نادر ) و كأنه
يتذكر شيئاً ..
« أنا أيضاً لم أصدق
وجودك ، خاصة بعد رؤياى بنفسى لإطاحة الإنفجار بك ، هذا يجعل هناك شيئاً مشتركا
بيننا .. أليس كذلك ؟! » ..
كان هناك مشهداً يأتى
ببطء الى رصيف ذاكرته ، و فى كل لحظة كان يتكون جزء منه ، كلوحة زيتية مكسوة بغبار
ناعم ، تزيل منه الرياح شيئاً فشيئاً ..
« نعم .. إنه أنا » .
كان ( نادر ) يحوم حول
المكان ، عندما تلقى الضربة ..
فالتفت الى ذلك الشخص
، و ..
و فى اللحظة التى تذكر
ملامحه فيها ، انتزع ذو الصوت المألوف القناع القماشى من على وجهه ، قائلاً
بإبتسامة مخيفة :
- ألم أقل لكم ؟!.. لقد
عدت .. عدت من الموت .
حدق ( نادر ) فى
ملامحه بتوتر كبير ، و هو يحاول بعنف انتزاع قيوده .. الخشبية ..
*
* *
تعليقات