خطابات الى روائى شاب : 1 goodreads - review


من الدودة وحتى الأوانى المستطرقة !



كان من المفترض أن يكون هذا هو أول ريفيوهاتى هنا على موقع القراءات الدسم goodreads ، حتى تكون البداية الصحيحة هى التعليق على ماهية الرواية ، ومن ثم التعليق على الروايات نفسها .. لكن لا بأس فرواية "صندوق الدمى" ألحت على كى أضع ما رأيته فيها أولا ، قبل أى انشغال آخر ..
هنا واليوم لقاء مع المتعة نفسها .. فماريو بارجاس يوسا Jorge Mario Pedro Vargas Llosa
المولود عام 1936 والحاصل على جائزة نوبل عام 2010 تتويجا لجوائز أخرى عدة - مثل جائزة ثرفانتس - فى الأدب ، والبيروفى الأسبانى الذى رشح نفسه لرئاسة بيرو . ينطلق بنا فى رحلة استكشافية رائعة تحاول الإبتعاد عن التنظير الشديد والأكاديمية ، لإجابة سؤال كل الكتاب المبتدئين : كيف أكون روائيا ؟
والأمر ممتع من وجهين ، فهو من ناحية ممتع للكتّاب بشكل خاص ، وأعنى الكاتب المخضرم الذى له تجارب فى الكتابة ، حيث يقف على ما حققه من نصائح "يوسا" أو لم يحقق ، ويخوض أجواء إعادة الإستكشاف وفحص مصطلحاته الأدبية الرسمية ، كما أنه ممتع من الوجهة الأدبية .. فالكتاب مكتوب بأسلوب الرسائل وهو فى حد ذاته أسلوب أدبى عريق ، مضاف اليه الخيال المفسر لأسئلة مبتدعة ، وليست أسئلة حقيقية صادرة من روائى شاب حقيقى ..
وقبل استعراض رسائل الكتاب الإثنى عشر، لابد أن نعرف جميعا أن أساتذة "يوسا" الذين يضعهم على (مذبح مقدساته) حسب تعبيره ، هم : (فوكنر) - (هيمنغواى) - (مالرو) - (دوس باسوس) - (كامو) - (سارتر) .






1- الرسالة الأولى  قطع مكافئ للدودة الوحيدة  :
نقطة الإنطلاق وبداية أن تكون كاتبا لن تأتى إلا بوجود ما يسمى بـ ( الميل الأدبى ) . والميل الأدبى يأتى من إحساس بالتمرد وبأن العيش ككاتب هو أفضل سبل العيش ! فكل خيالى يريد أن يحيا فى عالم يبغى استبداله بالعالم الذى يحيط به فى الواقع ، سواء كان هذا الخيالى كاتب أو قارئ ، فالإثنين يعاونان بعضهما البعض فى افنتقال للحياة فى هذا العالم الخيالى الرائع ، فى رفضهما المشترك للحياة الواقعية السيئة أو المملة أو المرفوضة مهما كان السبب .
يقول "يوسا" : (الجوائز والإعتراف العام ومبيعات الكتب والسمعةالإجتماعية للكاتب لها مسار تعسفى الى أبعد الحدود. فهي تتجنب، بعناد أحياناً، من يستحقها بجدارة كبيرة وتحاصر من يستحقها ، وتثقل عليه، وهكذا يمكن، لمن يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى انهيار حلمه وإحباطه، لأنه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكُتَّاب (وهم محدودون). والأمران مختلفان)
يرى "يوسا" بلا تزمت أو ثقة مبالغ فيها ، أن الطريقة الوحيدة المحتملة للبدء فى أن تكون كاتبا، هى إصرارك على توجيه حياتك الخاصة فى خدمة مشروع الكتابة.
ثم يخبرنا بقصة مخيفة كانت تفعلها النسوة فى القرن التاسع عشر .. حيث كن يصبن بالذعر من بدانتهن، فكن يبتلعن دودة وحيدة، هذا جعل منهن بطلات حقيقيات وشهيدات للجمال، فما ان تستقر تلك الدودة الوحيدة فى أحد الأجساد حتى تتغذى عليه وتشتد على حسابه ، وصعب جدا طردها من ذلك الجسم الذى تستعمره ، فمهما أكلت وشربت لن تهدئ من نهم الحيوان القابع فى أعماقك ..
صديق ليوسا أصيب بهذا الداء ، والذى هو أقرب مثال لتصوير كيفية انخراطك فى مجال الأدب لدرجة تقترب من العبودية، فالميل الأدبى ليس تزجية للوقت إنه عبودية مختارة بحرية تجعل من ضحاياها (المحظوظين) عبيدا، يحيون دائما من أجل الدودة الوحيدة فى أعماقهم .
هكذا يتحول الأدب الى شئ يشغل الوجود . ويخبر يوسا الروائى الشاب أن من يدخل الأدب بحماسة من يعتنق دينا هو وحده من سيكون فى وضع يمكنه من أن يصير كاتبا حقا ، وأن يكتب عملا يعيش بعده .
ويوضح أنه لا وجود لروائيين مبكرين . فجميع الروائيين الكبار والرائعين، كانوا فى أول أمرهم متمرنين (مخربشين) ، وراحت موهبتهم تتشكل استناداً الى المثابرة والاقتناع.



2 - الرسالة الثانية  الكاتوبليباس  :
يؤمن "يوسا" – وأنا أيضاً - أن الأدب هو افضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة ، وأن موضوع الرسالة الثانية بعد (الميل الأدبى) سيكون حتما منبع القصص التى تقصها الروايات .. من أين تأتى؟
يخبرنا "يوسا" أن الروائى يتغذى على نفسه مثل (الكاتوبليباس) ! الذى هو حيوان خرافي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير (إغواء القديس إنطوان)، وأعاد إبداعه بورخيس في (المرجع في مملكة الحيوان المتخيلة)، حيث يلتهم هذا الحيوان نفسه، بادئا ً بقدميه، هكذا فالروائى ينبش فى تجربته الحياتية الخاصة بحثا عن دعائم ومرتكزات لكى يبتكر قصصا.
ومهما بدت لنا قصة أنه لا يوجد فيها شئ يمس حياة الكاتب ، فهذا خاطئ ، لأنه هناك شئ ما مرتبط أحشائيا بحياة الكاتب لكنه مغطى بشدة، تماما مثل عملية استربتيز عكسية .. ففى سعيه الى احكام بناء الرواية، يأخذ الروائى بستر العرى الأولى (نقطة بدء الإستعراض والخبرة الحياتية) ، ومواراته تحت ملابس كثيفة ومتعددة الألوان ، تصوغها مخيلته، وهذه العملية شديدة التعقيد والدقة، حتى إن الكاتب نفسه لا يستطيع فى أحيان كثيرة، أن يحدد فى النتاج النهائى، فى ذلك الدليل الطافح بالحيوية على قدرته، على اختراع أشخصاص وعوالم متخيلة، تلك الصور القابعة فى ذاكرته - المفروضة من قبل الحياة - التى نشطت مخيلته، وشجعت إرادته وقادته إلى تدبر تلك القصة.
كما يرى يوسا فى جرأة مدهشة أن الروائى لا يختار موضوعاته، بل هى التى تختاره. إنه يكتب حول شؤون بعينها ، لأن أموراً بعينها قد حدثت له. فحرية الكاتب فى اختيار الموضوع حرية نسبية، وربما غير موجودة.
وافضل مثال لكاتب /كاتوبليباس حقيقى هو "بروست" الذى تغذى على نفسه، حتى شيد (البحث عن الزمن المفقود) الصرح الروائى والملحمة التى هى خلق روائى عجيب بدأ بمواد أولية من حياة مؤلفه.
ثم يخاطب الروائى المبتدئ محدثا اياه عن الأصالة ومعنى أن يكون الكاتب أصيلا . هنا يشرح أن التخيل خداع وكل رواية هى كذبة تحاول التظاهر أنها حقيقية . اختلاق تعتمد قوة الإقناع فيها على استخدام بعض التقنيات الإيهامية والشعوذة الروائية. والروائى الحقيقى/الأصيل هو ذاك الذى يكتب حول موضوعات حياتية مفروضة، متجنبا تلك التى لا تولد بصورة حميمة من تجربته الذاتية.. تتلخص حقيقة وصدق الروائى فى تقبل شياطينه الخاصين، وفى خدمتهم بقدر ما تسمح به قواه !
فلا تعتقدن أن الموضوع الصناعى البعيد عن شياطينك الخاصة هو أصيل، فالموضوع بحد ذاته ، لا يمكن له أن يكون جيدا أو سيئا فى الأدب. وكل الموضوعات يمكن أن تكون الأنريم كليهما.. حسب تجسده واتخاذه شكلا معينا فى الرواية.



3 - الرسالة الثالثة  القدرة على الإقناع  :
العنصر الثالث بعد الميل والموضوع هو ( شكل الرواية ) ، الذى على أساسه يتحدد شكل الرواية. لا يمكن فصل الرواية عن الطريقة التى تروى بها، ولا يمكن فصل الموضوع عن النسق السردى، إلا لسباب توضيحية بحتة، فلو أخبرتك أن (موبى ديك) تروى قصة ذئب بحر مهووس بحوت ابيض يلاحقه عبر كل بحار العالم، وإن (الكيخوتة) تروى مغامرات ومحن فارس نصف مجنون يحاول أن يكرر فى سهول (المنشا) ، مآثر أبطال روايات الفروسية، فلن تتعرف من خلال العرض لموضوعى الروايتين على العوالم الغنية والحاذقة التى أبدعها "ملفيل" و"ثربانتس" ..
يقول "يوسا" : ( من أجل تزويد رواية بـ"القدرة على الإقناع" ، لابد من سرد قصتها بطريقة تستفيد الى أقصى الحدود من المعايشات المضمرة فى الحكاية وشخصياتها ، وتتمكن من أن تنقل الى القارئ ، وهما باستقلاليتها عن العالم الواقعى الذى يتواجد فيه من يقرؤها ) .
الروايات السيئة وحدها تمتلك تلك القدرة على التغريب التى نادى بها (بريخت). الرواية الرديئة التى تفتقر الى قوة الإقناع، أو التى تملكها ضعيفة جدا، لا تقنعنا بحقيقة الكذبة التى ترويها لنا. وعندئذ، تظهر لنا تلك الكذبة على حقيقتها، مجرد كذبة/خدعة/بدعة تعسفية وبلا حياة خاصة بها ؛ تتحرك بتثاقل وخراقة، مثل دمى محرك عرائس سيئ. وتظهر الخيوط التى يحركها بها خالقها واضحة للعيان. وتكشف عن شرطها ككاريكاتير للكائنات الحية، ولا يمكن لمآثرها وآلامها ، أن تؤثر فى مشاعرنا إلا بصعوبة.
والشكل يتوصل لمعجزة الإقناع والإغواء والتأثير، ويتألف من عنصرين هما الأسلوب والنسق، الأول يتعلق بالكلمات، بالبناء الذى تروى به القصة. والثانى، بتنظيم المواد التى تتألف منها تلك القصة، وهو أمر ، بتبسيط شديد، له علاقة بالمحاور الكبرى لأى بناء روائى: الراوى، والمكان، والزمان القصصى.



4 - الرسالة الرابعة  الأسلوب  :
ليس مهما فى شئ أن يكون الأسلوب سليماً لغويا أو غير سليم، وإنما المهم أن يكون فعالاً، ومناسباً لمهمة نفخ وهم بحياة فى القصص التى يرويها هذا الأسلوب.
ويضرب " يوسا " مثالا بـ ( ثربانتس ) الذى كتب بأسلوب فائق السلامة، وفق القواعد النحوية والأسلوبية السائدة، ومثله ( ستاندال ) و( ديكنز ) وحتى ( غارسيا ماركيز ) - كاتبى اللاتينى الأول - ولكن هناك آخرون خرقوا تلك القواعد، مقترفين كل أنواع العثرات النحوية. أسلوبهم يغص بالأخطاء أكاديميا ، دون أن يكونوا روائيين غير جيدين ، بل كانوا روائيين ممتازين مثل ( بلزاك ) و(جويس ) و(سيلين ) و(كورتاثر) و ( ليثاما ليما) .
لذا ففعالية الكتابة الروائية تعتمد على خصيصتين: تماسكها الداخلى -وجود نمط ومنطق- وطابعها كضرورة لازمة. فحتى لو كانت القصة غير متماسكة فعلى اللغة أن تكون كذلك، لكى ينجح عدم التماسك ذاك فى الظهور بأنه أصيل، ونابض بالحياة، مثل مونولوج (مولى بلوم) فى نهاية (أوليسيس) لـ ( جويس) .
يمكن أن يكون الأسلوب منفرا، ولكنه يكون فعالا مع ذلك، بفضل تماسكه . كما فى حالة (لويس فيردينان سيلين) على سبيل المثال، فى روايتيه (رحلة الى أقاصى الليل) و(موت بالتقسيط) اللتان تتمتعان بقدرو ساحقة على الإقناع، رغم جملها القصيرة المتلعثمة ، المبتلاة بعلامات التعجب، والهائجة بالصراخ والرطانة العامية !



5- الرسالة الخامسة الراوى . المكان :
باعتبار أن الراوى هو أهم شخصية فى كل الروايات بلا استثناء ، فلا يجوز المزج بين المؤلف ذو الحياة الغنية التى تسبق وتلى الرواية ، وبين الراوى الذى هو كائن مصنوع من كلمات .
 ولقد دخلت مؤخرا مناقشات قوية حول هذا الأمر ، الذى يجعل من الروائى العظيم محل انتقاد ، إذا ما كان صوته أعلى من صوت أبطاله الخياليون وراح يشرح كما لو أنه يشرح سيرته الذاتية لا أحداث روائية متخيلة. ويوسا يذكرنا بصياغة فلوبير فى رسائله نظرية متكاملة حول الجنس الروائى، وبتمسكه القوى واللانهائى بطريقة بقاء الراوى غير مرئى، لدعم سيادة التخييل واكتفاءه الذاتى، مما يساعد القارئ على أن ينسى أن هناك من يروى له ما يقرؤه . هذا لا يعنى أن الروايات الكلاسيكية ناقصة بسبب حضور الراوى بشكل طاغ، هذا لأن من صاغها كان عملاقا مثل ديكنز أو هوجو أو فولتير .
والراوى إما راوى شخصية (من داخل القصة) أو عليم (الراوى الرب من خارج القصة) أو ملتبس بين البينين ( مثلا عندما يستخدم صيغة المخاطب أنت)، واختيارك لنوع الراوى يكون حسب المكان الذى يشغله فى علاقته بالعالم المروى .. وكلما اتسعت رؤية الراوى كلما كانت القدرة على صنع (الكذبة الكبيرة / الرواية الجيدة) أفضل ، ومن النادر أن يكون فى الرواية راوٍ واحد، بل سلسلة من الرواة متعددى المنظورات، ينقلون لنا الأحداث أحيانا ضمن الرؤية المكانية الواحدة ، أو بالقفز عن طريق النقلات من رؤية مكانية الى أخرى.
كل هذا ينبغى أن يكون مسوغ فى خدمة قدرة القصة التى ترويها هذه الرواية على الإقناع.



6 – الرسالة السادسة . الزمن :
الزمن فى الرواية متخيل أيضا – حسب يوسا – وهو جزء لا يتجزأ من طرق تحرير الروائى لإبداعه من الواقع ، وتزويد هذا الإبداع بذلك الإستقلال الذاتى الذى تعتمد عليه قدرته على الإقناع.
هناك زمن متسلسل (كرونولوجى) موجود موضوعيا بغض النظر عن ذاتيتنا، والذى يقرضنا قرضا منذ مولدنا وحتى اختفائنا من الحياة. وهناك أيضا زمن نفسى (سيكولوجى) نسبى ينقضى بسرعة وسط الأحداث السعيدة والملهية التى تستغرقنا، بينما يبدو شبه متوقف ويمنحنا وعيا حادا به فى لحظات الألم والكارثة والإنتظار والتوقع، والقانون هنا الذى لا استثناء فيه أن زمن الروايات زمن نفسى ( سيكولوجى) ذاتى إجبارى لكل تخييل يريد أن يعيش بذاته.
ويضرب يوسا أمثلة رائعة على التنويع الزمنى فى الروايات . مثلا فى أمبروس بيرس (حادث على جسر نهر البومة) تدور الأحداث كلها خلال جزء من الثانية فى رؤية يراها (بيتون) قبل شنقه ، لكننا لا نعرف ذلك إلا بعد انتهاء الرؤية والقصة . كذلك نفس اللعبة الزمنية فى قصة (المعجزة السرية) لبورخيس .
والإحتمالات التى يمكن للروائى أن يختار بينها ثلاثة مع تنويعات لا نهائية لكل نوع : أ) تطابق زمن الراوى وزمن ما يروى (يروى من خلال الحاضر النحوى المضارع) . ب) انطلاقا من الماضى أحداث تحدث فى الحاضر أو المستقبل . ج) تموضع الراوى فى الحاضر أو المستقبل ليروى أحداثا جرت فى الماضى .
كمثال يعطينا يوسا قصة قصيرة جدا ، ومن أفضل القصص القصيرة جدا فى العالم ، انها (الديناصور) للجواتيمالى (أغوستو مونتيروسو) : " عندما استيقظ. كان الديناصور لا يزال هناك " عندما استيقظ وبعد أن رأى الديناصور فى حلمه وجده أيضا على حافة فراشه !
فى أمثلة أخرى وفى قصة أليخو كاربنتيير (رحلة الى البذرة) بدلا من أن يتقدم التسلسل الكرونولجى من الماضى الى الحاضر ، فهو يسير بالعكس تماما ، حيث يصغر دون مارثيال من الشيخوخة الى المرحلة الجنينية. وفى قصة (تريسترام شاندى) للكاتب لورانس ستيرن ، نجد البطل فى تفاصيل ساخرة قبل أن يولد فى تجربة إبداعية مثيرة للفضول ! وفى أشهر روايات جونتر جراس (طبل الصفيح) يقرر البطل ماتريزث عدم النمو فيعيش نوع من الأبدية يرى من خلاله استهلاك الزمن للعالم حوله . هنا الزمن كموضوع أو حكاية.
 أما القارئ الذى يقرأ (لعبة الحجلة) متبعا تعليمات جدول التوجيه الذى يقترحه الراوى فى بداية الرواية، لن ينتهى أبدا من قراءتها، لأن الرواية تنتهى بفصلين أخيرين، يحيل كل منهما القارئ إلى لفصل الآخر بصورة متتالية. مما يفرض (نظريا) على القارئ المطيع والمنضبط، أن يمضى بقية حياته فى قراءة هذين الفصلين، عالقا فى متاهة زمنية، دون أى إمكانية للخروج منها ! ولدينا فى العربية تجربة فريدة لأحمد خالد توفيق اسمها (كهوف دراجوسان) قريبة من فكرة (لعبة الحجلة) ، وإن كان قد ذكر أنه لم يجد تجربة تشبه قصته ، فذكرونى أن أخبره عن هذه القصة لخوليو كورتاثر، أو اخبروه أنتم إذا استطعتم الوصول اليه . هنا الزمن كبناء سردى .
هناك أيضا الزمن المكثف ، فرواية "أوليسيس" الضخمة ، لجيمس جويس، تكاد لا تروى أكثر من 24 ساعة فى حياة ليوبولد بلوم ، وإذا تحدثنا عن التكثيف – يشرح يوسا – فهناك لحظات ذروة فى كل قصص التخييل مليئة بالحيوية التى تجذب انتباه القارئ بشكل مذهل التركيز، أسماها يوسا بـ (فوهات البركان) ، وبينها أزمنة ميتة أو متعدية لا يمكن أن تخلو منها رواية لخلق الوهم بالعالم، عكس الشعر الذى هو جنس أدبى تكثيفى منقح حتى الجوهر من الشوائب.



7 – الرسالة السابعة . مستوى الواقع :
بعد المكان والزمان فرؤية مستوى الواقع هى العلاقة القائمة بين طبقة الواقع التى يروى منها الراوى الأحداث ، وطبقة الواقع الخاصة بما يروى نفسه ، ولمستوى الواقع هذا احتمالان تقريبيان لكنهما مميزان :
أ‌) عالم واقعى – ب) عالم فانتازى .
الواقعى كل شئ أو حدث أو شخص يمكن لنا التعرف عليه من خلال تجربتنا الخاصة عن العالم ، والفانتازى على ما ليس كذلك من سحرى وخرافى واسطورى الى آخره. وأبرز كتاب الأدب الفانتازى فى عصرنا : بورخيس- كورتاثر- رولفو- كافكا- جارسيا ماركيز ( أستاذى ) – أليخو كاربنتيير.
فيما يتعلق بمستوى الواقع توصل يوسا منذ زمن ، إلى أن أصالة الروائى ، فى حالات كثيرة، تكمن فى عثوره على مظهر أو وظيفة للحياة، للتجربة الإنسانية، للوجود، كانت حتى ذلك الحين منسية، أو مهمشة، أو ملغاة فى التحليل الروائى، وإظهارها ليس فقط فى جزء من الرواية بل كمنظور مهيمن، يقدم لنا رؤية غير مسبوقة، تجديدية، وغير معروفة فى الحياة. تماما كما حدث مع بروست وجويس.
فى كل رواية ، رؤية مكانية، وأخرى زمانية، وثالثة لمستوى الواقع، ووفق الطريقة التى تتناغم بها هذه الرؤى وتتآلف ، يتحدد ذلك الإنسجام الداخلى الذى هو قدرة الرواية على الإقناع.



8 – الرسالة الثامنة . النقلات والقفزة النوعية :
"النقلة" هى كل تبدل تتعرض له أى واحدة من وجهات النظر (الرؤى) المشار اليها سابقا . على سبيل المثال فى روايتين معاصرتين كـ (السيرتاو الكبير: دروب) للبرازيلى جواو روسا و(أورلاند) لفرجينيا وولف ، التبدل المفاجئ فى جنس الشخصية الرئيسية (من رجل الى امرأة فى كلتا الروايتين) يحدث تبدلا نوعيا فى الكل السردى، محولا اياه من مستوى واقعى لمستوى فانتازى، والنقلة فى الحالتين من نوع فوهة البركان غنية التفاصيل والأحداث. فى رواية (بيدرو بارامو) لخوان رولفو وبعد أن نتقدم فى القراءة جدا نكتشف ان شخصيات قرية كومالا المكسيكية كلها ميتة ! إنها إحدى النقلات من النوع الجذرى (قفزة نوعية) الأكثر فعالية فى الأدب اللاتينى الأمريكى المعاصر، لأنك لا تستطيع أبدا تحديد متى حدثت تلك النقلة .. إنها تكتشف ببطء تدريجى بسبب تلميحات متواصلة مريبة بأن كومالا قرية أشباح.
أما المثال الأكثر لطفا ومرحا وتسلية فى "رسالة الى آنسة فى باريس" لخوليو كورتثار أيضاً، ففى هذه القصة ستجد نقلة أدبية رائعة فى مستوى الواقع ، عندما يخبرك الرواى/الشخصية كاتب الرسالة بالعنوان، بأن لديه عادة مزعجة تتمثل فى تقيؤ أرانب ! هذا ما يميز عالم كورتاثر الساحر من نقلات مدهشة تكسر التوقع والعادات اليومية الروتينية ، بسوريالية لا تنفصل عن نثر متدفق صافى بلا تكلف ، أيضا فى قصته العظيمة "المينادات" حول كورتاثر حفلة كونشرتو هادئة فى مسرح كورونا الى حماس قد يكون مبالغ فيه من الجمهور حيال أداء الموسيقيين لكنه مازال مقبولا ، ثم ينحط أخيرا الى انفجار حقيقى لعنف وحشى بهيمى يخوض خلاله القارئ كابوس مرعب مدهش .
يذكر يوسا أديبه الشاب – ليختم موضوع النقلات - بنظرية عن الأدب الفانتازى ، طورها باحث وناقد بلجيكى-فرنسى كبير هو روجيه كايوا، فالأدب الفانتازى الحقيقى حسب رأيه ليس ما يكون مقصودا عن عمد ، أو يولد من فعل واع من مؤلفه، بل بطريقة تلقائية دون تأمل مسبق من المؤلف .


9 – الرسالة التاسعة . العلبة الصينية :
وسيلة أخرى لاحظها يوسا يستفيد منها الرواة، لتزويد قصصهم بالقدرة على الإقناع، هى ما يمكننا تسميته "العلبة الصينية" أو "الدمية الروسية" (ماتريوشكا) . وتتألف من بناء قصة على طريقة تلك العلبة الفلكلورية التى تتضمن أشكالا مماثلة لها، وأصغر منها حجما ، فى متوالية، تمتد أحيانا الى ما هو متناه فى الصغر.
كمثال (ألف ليلة وليلة) مجمل الحكايات فيها على نسق العلب الصينية لكنها ميكانيكية ، وهذا فى رأى يوسا يجعل الوسيلة غير فعالة نسبيا، لأن القصص متجاورة لا متكاملة بعناصر ذات مفعول متبادل فيما بينها جميعا .
ويواصل يوسا استشهاداته بإبداعات اللغة الإسبانية والأدب اللاتينى المنحاز له بخبرة تدعو على الإعجاب والإحترام.

10 – الرسالة العاشرة . المعلومة المخبأة :
فى هذه الرسالة الممتعة يبدأ يوسا مباشرة فى شرحه لمصطلح (المعلومة المخبأة) فيقول فى مطلع الرسالة : ( صديقى العزيز : فى مكان ما، يروى أرنست هيمنجواى أنه خطر له فجأة، فى بداياته الأدبية، بينما هو يكتب قصة، أن يحذف الواقعة الرئيسية فيها: شنق بطلها لنفسه. ويقول انه اكتشف بهذه الطريقة، وسيلة قصصية، أكثر من استخدامها فى قصصه ورواياته التالية. ) أى كتم المعلومة بقدرة راو ماكر يتدبر أموره، رغم ذلك تكون هذه المعلومات المسكوت عنها، مستثيرة لمخيلة القارئ، بحيث يتوجب على هذا الأخير، أن يملأ تلك الفجوات فى القصة، بفرضيات وتخمينات من حصاده بالذات.
كمثال لهيمنجواى أيضا أستاذ هذه الوسيلة قصة "القتلة" التى هى مثال فى الإقتصاد السردى، ونص أشبه بقمة جبل جليدى، بروز صغير ظاهر تلمح فى بريقه المبهر، كل كتلة الحكاية المعقدة التى يقبع فوقها، والمخفية عن القارئ.
ثم ذكر أمثلة أخرى: رواية هيمنغواى الأفضل فى رأيه (وماتزال الشمس تشرق) – أى أنها أفضل عند يوسا من درته (العجوز والبحر) – ورواية روب غرييه (الغيرة) المختفية فيها الشخصية المركزية ورغم ذلك فهى مسلطة على العمل كله كما يحس أى قارئ للرواية ! ولقد أثنى يوسا بشكل ضمنى مضمر وعابر على الروايات البوليسية التى تعتمد على تكنيك إخفاء المعلومة مؤقتا وإزاحتها للنهاية حتى نعرف من الجانى ، وهو ثناء يحسب له بشدة وقد يستغربه النقاد الديناصورات عندنا ممن لا يجدون للروايات البوليسية وزنا لأن قارئيها معظمهم شباب .

يخبرنا يوسا فى حكمة أن المكتوب فى أى رواية لا يشكل فى الحقيقة إلا جزءا من القصة التى ترويها ، فلو أردنا أن نصف العالم الخاص بالقصة كلها بكل مكوناتها الفكرية والشيئية والمواد التاريخية والنفسية وغيرها، إحتاج الراوى الى مادة أكثر اتساعا وعدد لا نهائى من الصفحات ، والروائى كلود سيمون يوضح هذا ساخرا من ادعاء الأدب الواقعى على اعادة طرح الواقع كاملا بقوله " إذا احتجنا أن نصف علبة سجائر من نوع (جيتان) وصفا واقعيا، فلا يكفى الحجم واللون والكتابة وشكل الرسوم، إذ لابد من تقرير مفصل بدقة عن العمليات الصناعية، وأنظمة التوزيع والتسويق، وتطور العادات الخاصة بالتدخين، وفرض أشكال الموضة، وهو مرتبط بصورة متداخلة بالتاريخ الإجتماعى، والأساطير، والسياسات، وأنماط الحياة ! " لذا فوصوف أتفه الأشياء بهذه الطريقة قد يؤدى لذلك الإدعاء اليوتوبى: وصف العالم !
لكن هذه المعطيات المستبعدة بطبيعة الحال لأنها غير مجدية تختلف طبعا عما يشير اليه يوسا من معلومات مخبأة غير واضحة بذاتها ولها وظيفتها وتؤدى دورها فى الحبكة القصصية، الأمر الذى يشبه مكعب صخرى بداخله تمثال وعليك أنت نحته حتى تظهر التمثال الذى هو جاهز ومتكامل لكنه مغطى بالتعمية. مكعب عليك نحته بما أسماه يوسا (أداة المعلومة المخبأة، وأسميته أنا (إزميل التخييل) .



11- الرسالة الحادية عشرة . الأوانى المستطرقة :
الأسلوب الأخير "الأوانى المستطرقة" يضرب له يوسا مثال فصل (المعرض الزراعى) أحد أشهر مقاطع رواية (مدام بوفارى) ، وهو مشهد تجرى فيه 3 مشاهد مختلفة، تروى بطريقة متشابكة، وتأخذ بالتلوث المتبادل والتفاعل والإنصهار فيما بينها فى مكان واحد مقسم لثلاثة أركان وخطابين وزمان واحد.
ويؤكد يوسا أن أكثر أمثلة الأوانى المستطرقة جرأة وبراعة فى رواية (النخيل المتوحش) لوليم فوكنر. حيث تروى قصتان مستقلتان فى فصول متناوبة ، كما يمكننا تطبيق أسلوب الأوانى هذا على قصة (لعبة الحجلة) التى سبق ذكرها أيضا، لأن أحداثها تدور فى قصتين بين باريس وبوينس آيريس، ولنفس الكاتب كورتاثر روايته الأولى (الجوائز)، وقصته البديعة الصياغة (الليل مستلقيا) .



12 – الرسالة الثانية عشرة . على سبيل الوداع :
يعود يوسا لؤكد مرارا وتكرارا على عدم جدوى تجزئة العمل الإبداعى الى عناصر لا يمكن أن تكون مفصولة عن بعضها بهذا الشكل الذى سبق وأن تم فعله طوال مدة الرسائل لغرض محدود ، دون أن ينتقص من أهمية النقد الأدبى بالقطع ، لكن النقد عند يوسا مستحيل أن يتوصل الى استنفاد ظاهرة الإبداع وتفسيرها بشموليتها، فالنقد يعتمد على العقلانية والذكاء التحليلى ، بينما الفى الرواية أو القصيدة الناجحة هناك دوما عنصر يأتى بحساسية تقلت من دقة النقد ، يأتى بحدس وتخمين وربما بالمصادفة. لهذا يوقن يوسا كما يقول بنصه : " لا يمكن لحد أن يعلم أحدا الإبداع . وأقصى ما يمكن تعليمه هو القراءة والكتابة.وما تبقى يعلمه المرء لنفسه بنفسه، وهو يتعثر، ويسقط وينهض دون توقف " .
ثم يختم بتواضع أرفع له القبعة : " صديقى العزيز : إننى أحاول أن أقول لك أن تنسى كل ما قرأته فى رسائلى، حول الشكل الروائى، وأن تبدأ، دفعة واحدة، بكتابة الروايات.

حظاً سعيداً.
ليما، 10 أيار 1997. "  لتنتهى تحفة أدبية فى حد ذاتها لصاحب نوبل ( ماريو فارجاس يوسا ).

وجهة نظر / عصام منصور

تعليقات

المشاركات الشائعة