صندوق الدمى : 2 goodreads - review


لا تثق فى امرأة اسمها خوشيار !



منذ الكلمة الأولى فى ثانى روائع (شيرين هنائى) (صندوق الدمى) ، وهى كلمة (القيد) فى الإهداء الى الزوج ورفيق الرحلة ، وفى كلمة (غماك) فى أبيات (جاهين) ، بدأ تساؤلى الأول استباقا للأحداث : أى قيد وأى غما ؟

لكن تساؤلى ذاب سريعا مع انبهارى بإبداع الجزء الأول ( مذكرات ) ، وهو الشق الروائى الأدبى الحقيقى فى الرواية ، بحديث الذات، وكل حميميته التى يمكنها إنجاح أى رواية ، لأنها أساس اتحاد القارئ مع البطل وتعاطفه الفورى معه ، بينما كان الجزء الثانى ( صندوق الدمى ) الأكبر من حيث الحجم ، لكنه كان روائى من طراز (البوب آرت) الميتافيزيقى ، وهذا لا يعنى أن الأول أفضل لأنه أدبى والثانى أقل جودة لأنه بوب آرت ، الواقع أن هذا يعنى مقارنتك بين العسل والسكر ، لكن رأيى الشخصى انحاز للعسل أو الجزء الأول الملغم بمشاعر الأمومة النادرة ، وهى المشاعر العصية على التعبير ، لأنها بحاجة لأم أديبة ، أو أديبة أم ، وهو ما تعرفين أنه نادر فى تاريخ الأدب الذكورى فى معظمه ..






أولى الإشارات الذكية فى هذا الجزء كانت ارتباك الأم نفسها فى الحديث الى طفلها من حيث جنسه ، أهو ابنها أم ابنتها بالله عليكم ؟! هى تتحدث اليه من قبل أن يولد عبر مذكرات تجهز كى يقرأها مستقبلا ، وهو ما سيظهر بعد هذا كحل فنى سينقذ الطفل من براثن ذلك السحر الشيطانى ، وهو حل مدروس وفى سياق الحبكة ، ولا علاقة له بحلول ( الاله من الآلة ) .

اتصال الأحداث الروائية بالأحداث الحقيقية فى هذا الجزء – عيد الحب ، عيد الأم ، تفجير القديسين ، اندلاع ثورة يناير ، الإنفلات الأمنى المتعمد ، حظر التجوال - قرّب النص نوعا من الواقعية ، لكن لا يمكننى القول أن الرواية واقعية إطلاقا ، حيث أن الواقعية لا تنقل مظاهر الواقع فقط كالطبعانية ، بل تتسرب لشرح جذور الأحداث وجوهر الوقائع ، وهو ما لم يظهر أثناء التعقيب على الأحداث الواقعية سوى بما يقتصر على خدمة نص الأحداث فحسب ، لكن مشاعر الأمومة والحب والبنوة والغيرة والرعب والتوتر الإنسانية الفياضة ، تجبرنى على وضع الرواية فى خانة الرومانسية ، التى تنظر لكل المشاعر الجياشة – بما فيها الخوف – كمشاعر رومانسية، عكس الشائع أن الرومانسية الأدبية معناها الغرام والعشق فحسب ، لذا يعد كاتب الرعب الأول ( إدجار آلان بو ) كاتب رومانسى ، ولذا يمكننا وضع أدب الرعب فى مكانته المميزة الراقية ، حتى لو أُغرق فى البوب آرت والشعبية المتمردة ..
فى الجزء الثانى ( البوب آرت / الحبكة / القلب والنهاية / وجهة النظر الأحادية ) ، تبدأ الأمور عندى فى الإختلاف ، وأعتقد عند باقى القراء التحليليين وليس العاديين ، إذ يبدأ الجزء بالعبارة الصادمة ( ما يلى هو ملخص لما حدث من فبراير 2011 الى أواخر عام 2015 ، وهو وجهة نظر الراوى الخاصة ولا دخل لرنا مهنى بها ! ) . لست ناقدا على الإطلاق ولم أدرس النقد ، لكنى أعرف من منطلق حرصى على إجادة الفن الروائى ، أن الناقد العظيم ( هنرى جيمس ) قال: " لابد أن يختفى المؤلف من القصة . القصة يجب أن تحكى نفسها ، عن طريق مسرحة الحدث وليس السرد والتلخيص " ، وهذا ذات رأى (برسى لوبوك) و(فلوبير) ومن قبلهم (أرسطو) . فعندما خرج إطار النص من وعى إحدى الشخصيات ، وهى فى حالتنا ( رنا ) صاحبة السيطرة على النصف الأول من الرواية – أو الثلث الأول إن شئت الدقة المساحية – صار ملكا لصوت الراوى العليم أو المؤلفة ، التى لم تحاول الإختفاء خلف وعى شخصية أخرى ، بل صرحت مع بداية الثلث الثانى والثالث : ( هو وجهة نظر الراوى الخاصة ) ، فقضت بهذا على قضية (الإيهام بالواقع) منذ أول لحظة ، على أن ( شيرين هنائى ) حاولت التخفيف من هذا الظهور الواضح للمؤلف ، باستعراض ما تبقى من أحداث عبر عدة وجهات نظر مختلفة ، بما فى هذه الشخصيات من شخصية ( شرير الفيلم ) أو مدام ( خوشيار ) ..



وشخصية ( خوشيار ) اتخذت مكانها الرئيسى بين الشخصيات الأساسية بطبيعة الحال ، ومن اسمها القوى فرنسى الإيقاع ، وملامحها المرسومة على نمط الساحرة الشريرة ، ومكانها على رأس عدو/أعداء البطل التقليدى ، أمكننى بسهولة معرفة أن على الحذر من هذه الشمطاء ، وألا أثق فى امرأة اسمها ( خوشيار ) ، تجيد اللاتينية وتحتفظ بكتلة أربطة كتانية فيها حياة شيطانية ! لكن الضحايا لم يعرفوا هذا الحذر بطبيعة الحال ، فسقطوا عرضة لنوع من السحر يبدو غريبا للوهلة الأولى ، لكنه فى الواقع شهير جدا ، بل أن فكرة الدمى بأكملها متعلقة بهذا النوع الشهير من السحر الخاص بعقيدة ( الفودوو ) ، حيث تكون دمية من قماش أو خشب هى بديل للشخص المطلوب السيطرة عليه . يسمى سحر الإقتران ، وأنت استبدلتى فيه قصاصة الملابس أو خصلة الشعر التى تغنى عن الشخص نفسه بنقطة الدم ، كما وضعتى قواعد خاصة بنوع الطفل وضرورة وجود الأب فى حالة كونه أنثى والعكس بالعكس ، فصار الأمر طقوسيا . هذا السحر بالمناسبة تسرب من افريقيا الى دول ( الكاريبى ) ، بل والى ( مصر ) ، فقط تم منح خصلة الشعر أو قصاصة الملابس اسم ( الأتر ) بالتاء ، وتحولت الدمية الى ورقية تخفيضا للنفقات ربما ! بل واستوحت السينما منه سلسلة أفلام الرعب الخمسة ( تشوكى ) ، عن دمية شيطانية تتلبسها الروح فتصبح لها إرادة خاصة .

فى جملة ببداية هذا الجزء تقولين : " متأكد من كوننا جميعا دمى بشكل أو بآخر ، شئنا أم أبينا " . عبارة فلسفية عميقة لوصف العبودية بمفهومها الواسع ، تم توظيفها جيدا فى استعراض موضوع الدمى . يقول ( واين بوث ) : " كل سرد يخفى الصورة الضمنية لمؤلف مختبئ وراء الكواليس فى صورة مخرج أو محرك دمى " ولكن بوضع العبارة فى مضمون عبارتك أنتِ السابقة ، فالمؤلفة حتى لو كانت اله داخل نصه وخاص بشخوصه يحركهم كالدمى ، فهو نفسه دمية لمحرك آخر يليه محرك آخر فى سلسلة قد تبدو غير منطقية ! هذا إذا أوغلنا فى مفاهيم فلسفية أساسية تخص النص .

لن أخوض فى وجهة النظر السياسية التى لمسها البعض أو حاول الصاقها بمعتقدات المؤلفة السياسية بالجزء الثانى كما عرفنا فى حفل التوقيع ، فإذا ما ادعى البعض أن المؤلفة ضد الثورية ( مفهوم أشمل من الثورة ) ، فهو بسبب نفى المؤلفة لعدم وجودها فى النصف الثانى ربما ، لكن حتى لو ربطنا ذلك الربط الخيالى بين البطلة والمؤلفة/الراوى من حيث تشابه الأفكار – وهذا لا يصح - فمقطع مثل: " بعض من (رنا) أراد الإنتقام من (زين) .. أراد الإنتقام من الأنثى الثائرة بداخلها .. أراد الإنتقام من تدينها والسخرية منه ) يؤكد أن الراوى شديد الثورية والتمرد ، وموضوع الماسونية يعمق فكرة فلسفية خاصة بالسيطرة ونقص الحرية ، بل ويؤكد حقائق دينية بحتة ، فأى قارئ للنبوءات الدينية يعلم أن الفتن والإضطرابات المستقبلية ستكون مخيفة وهائلة حقا ، سواء بأناس يخططون ويعتقدون أنهم منشئوا هذه الإضطرابات وأنهم محركون والهة ، أو بدونهم .. هذا لا ينفى ثوريتى الشخصية وتأييدى ومشاركتى فى ثورتنا المجيدة ، ، كما لا ينفى عدم وجود البناءون الأحرار والنورانيون ، لكن على بالفعل أن أفكر فى نظرية المؤامرة ، فلقد قمت للتو مع رفاق الكفاح بثورة ضد متآمرين على الوطن .. متآمرين قاموا بانفلات أمنى متعمد ، ليزرعوا الرعب فى قلوب الأمهات والمواطنين الذين لم يخرجوا للميادين فى بداية المظاهرات ، ويجعلوا هناك ارتباط شرطى بينه وبين الثورة من أجل شيطنة الثورة ومعاقبة الشعب . وهذا أقصى ما يمكننى قوله فى موضوع الثورة ، إذ أن أى مشارك بها – على أعلى مستويات المشاركة – شهادته مجروحة فى مدح أو ذم الثورة .



بشكل عام فقد عرفت بدورى حقيقة القيد ، وأحببت (رنا) و(آسر) سواء كان ذكرا أم أنثى أم خنثى ، وأحببت ( النسكويك ) ..
الرواية أرشحها لمحبى قصص الأمهات المكافحات من أجل أبنائهن ، والمهتمين بقضية التعليم المحورية فى تنشئة مواطنى المستقبل ، أكثر من قارئى الرعب النفسى ، وهذا يرفعها لمصاف روايات انسانية مؤثرة وخلابة كرواية ( الأم ) لمكسيم جوركى ، وأرشحها لقارئى الرعب – وأنا منهم – إذا ما تحولت لفيلم غنى بالمؤثرات ، قد يكون الأول من نوعه فى سلسلة أفلام رعب مصرية ضخمة الإنتاج لم نرها بعد .
شكرا على الإهداء الخاص بنسختى الهامة الموجودة ضمن روايات عالية الأهمية متراصة بمكتبتى ، وبانتظار الرواية الثالثة باشتياق واهتمام كبيرين .

وجهة نظر / عصام منصور

تعليقات

المشاركات الشائعة