باري - ابراهيم أحمد عيسى


" تأملت تفاصيل وجهه في صمت، ثم سألته:
- هل كل *السراسنة مثلك؟
ضحك (سودان) حتى ظهرت نواجذه. هذه المرة الأولى التي تراه يضحك فيها. قالت بصوت شابه القلق:
- هل قلت شيئا خاطئا؟
لوح (سودان) بيده، بعد أن ذهبت عنه نوبة الضحك:
- عذرا.. لم أقصد ذلك. ولكن الاسم الذي ذكرته يثير عندي حالة من الضحك، فكلما قابلت مجموعة من الناس يحكون لنا قصصا مرعبة عن السراسنة، وحين يعرفون أننا المقصودون بالاسم يتعجبون من الأمر..
ألقى عصاه بعيدا وهو يستطرد:
- ليس هناك شيء اسمه سراسنة، ولا يوجد قوم بهذا الاسم، ولا نعرف من هم هؤلاء السراسنة.
نطق الكلمة الأخيرة وهو يرفع يديه في الهواء، في حركة كالتي يخيف بها الكبار أطفالهم. ضحكت من فعلته، فيما أكمل هو:
- ها أنا أمامك.. هل لي أذنان كبيرتان وشعر أشعث يمتلئ بالحشرات؟ هل هناك لعاب يسيل من فم تزاحمت فيه الأنياب وانبعثت منه الروائح الكريهة؟ "
ــــــــــــــــــــــــــــ
رواية تاريخية من إصدار دار تويا، أمتلك طبعتها الأولى نوفمبر 2017 - وقع خلاف بين الكاتب والناشر، ومن ثم أعيد نشرها مع دار تبارك - وهي رواية تستحق الكثير؛ لما بُذل فيها من جهد بحثي مهم. دائما ما أنتهج فكرة المبادرة وأن تسبق الآخرين بالحديث عن أحداث جديدة، وموضوعات لم يتم تناولها من قبل، وإلا فما معنى الإبداع إن لم تبدع عملا لم يسبقك إليه أحد، أو على أقل تقدير تناوله من زاوية جديدة لم ينظر منها مؤلف قبل ذلك، لذا منحتها ثلاث نجمات بضميرٍ مستريح، أما النجمتان الناقصتان، فقد حذفتا بسبب مزج الأدب بالأيديولوجيا بشكل فج، وليس بشكل انساني، وهي شعرة لا يدركها الكثير من أبناء جيلي، شعرة تفصله بين الخطاب السياسي الزاعق، وبين العمل الانساني الموجه لكل الانسانية، والذي يرصد بشكل أدبي كل دوافع الأبطال والشخوص بداخل النص الروائي، بدون تحيز لدين أو عرق. هنا صوت المؤلف كان واضحا بشكل أفسد انسيابية الحدث وحيوية الشخصيات.
فأنا عندما أشاهد - على الضفة الأخرى - فيلما غربيا يمجد في الحضارة الغربية على حساب تحقير عدوتها العربية، وينتصر مثلا لفظائع الصليبيين ضد العرب، لا أتعاطف مع العمل على الإطلاق، ولا آبه لضخامة الانتاج أو حصول العمل على أي عدد من الجوائز والتكريمات، وأذكر أمثلة حديثة كأفلام أكاذيب حقيقية والحصار، بينما أفلام مثل الرسالة ومملكة السماء وأسد الصحراء، التي تصور بإنصاف بعيد عن العنصرية حال المسلمين وعظمة العديد من أبطالهم وأبريائهم، فهي مقبولة حتى عند الغربي نفسه، الذي تميز فطرته علامات الحيادية والموضوعية برغم كل اصطناعات الصوابية السياسية.
لقد عانت الانسانية طويلا من العنصرية والتحقير المتبادل، حتى خلقت بيئة خصبة للتطرف والإرهاب، بنت عليها جماعات الاسلام السياسي مناهج فكرية كاملة، فبدلا من أن يساهم مؤلفينا من الأجيال الجديدة في محاربة هذا التأصيل الراديكالي للعنصرية وشرعنة الحروب والقتل باسم الدين، بزرع بذور ثقافة الاحتواء والسلام، فإنهم ينساقون - بنية حسنة أحيانا - وراء خطاب رومانسي من العصور الوسطى، لا يخلو من المناداة بين السطور باستعادة مجد ضائع، قام أساسًا على فكرة قهر الشعوب، وارتد إلينا على هيئة عصور مؤلمة من الاستعمار الغربي، مازلنا ندفع ثمنها ومآسيها حتى اليوم، بعد أن انتقلت القوة للمعسكر العدو.
في جميع الأحوال أنا لا أنتقد بل أنقد، وأتكلم عن كل النصوص الأيديولوجية وليس نصًا بعينه، وأنتهج رأيًا شهيرًا أشبه بقاعدة في فن النقد الأدبي، تقول: أن الرواية الديالوجية - الحوارية - لا تلغي صوت الكاتب، ولكنها فقط تواريه باتخاذ مظهر حيادي، وأنها أفضل من الرواية المونولوجية التي تعبر بشكل فج عن صوت الكاتب، كما نرى في هذا النص الحاصل على جائزة قطرية كبرى في مجال الأدب، تمنح عادة لأعمال توافق أصحاب الجائزة أيدولوجيًا.
أنا هنا لا أنكر الرواية، ولا أسيئ إلى النص من أي منطلق سياسي ثوري سابق ربما أكون قد انتهجته - ومازلت - بضمير مستريح، بالعكس فأنا أومن تماما بأن كل طبقة أو فئة اجتماعية لها فنها الخاص، ولها تصورها المتميز لما ينبغي أن تكون عليه أشكال تعبيرها الأدبي، وهذا في إطار النقد السوسيولوجي النصي، الذي ينتهي عادة بتأويل النص الروائي استنادا لمعطيات الحقبة التي ينتمي إليها.
والحقبة الحالية تتميز بحرب مهمة في عمق الشأن المحلي، وهي حرب ضد الإسلام السياسي. هذا معلن وواضح ولا يمكن التشكيك فيه، وهي استراتيجية عمومية للدولة بأجهزتها السياسية والعسكرية والإعلامية، ويتفق في هذا معظم طوائف الشعب، فلا يمكن بالفعل تسييس الدين، أو تديين السياسة، وإلا تحولت الحياة إلى جحيم، قد يؤدي بنا لانقسامات كما حدث في بعض الدوائر والمشاهد الدموية القصيرة إبان عزل الرئيس المنتمي للجماعة الإرهابية، مما يهدد بسقوط الشعب كله في حرب أهلية أو عدم استقرار مسلح نراه في بعض الدول المنهارة المحيطة. هنا، في نقدي البسيط هذا، أرى أن بعض النصوص - مثل نصنا الحالي - ينجرف بشدة لرؤية العالم ليس من نافذة الإبداع الفردي، ولكن الجماعة هي التي تكوِّن هذا التصور، بسبب العلاقات الداخلية الموجودة فيها وبين أفرادها المؤيدين لفكرها السياسي، أو المتعاطفين معه، وبسبب صراعها مع الجماعات الأخرى أو حتى مع قوى الطبيعة، فيتبنى أفرادها جميعا هذا التصور، قد يختلف معي البعض ولكن أظن أن كل المهتمين بالأدب يؤمنون أن النص الروائي له علاقة ما بالواقع الاجتماعي، خاصة لو كان صوت المؤلف واضحًا في نصه، ويؤمنون كذلك بأن النتاج الأدبي هو شكل من أشكال البنية الفكرية للمجتمع، ومادام المجتمع يشهد صراعا بين طبقاته حول المصالح المادية، فهذا يعني أيضًا أن الصراع موجود على مستوى الفكر، ومن هنا تدخل الرواية، بوصفها أدبا، أي شكلا من أشكال الفكر، في خضم الصراع الفكري الاجتماعي.
ومن هنا يتعين على القراء الشباب عدم اغفال الجانب الاجتماعي الفكري والسياسي، الظاهر بشدة في توجه النص، وأن يسعوا لوضع رؤيتهم النقدية على أساس واحد سليم: وهو أن الرواية كأدب تتجاوز الأيديولوجيا؛ لأنها تصوغ (رؤية) العالم في شكل فني.
أتمنى كل التوفيق لزميل جيلي الكاتب الباحث (ابراهيم أحمد عيسى)، وأنتظر جديده بذات الاهتمام.
*ملاحظة: ساراسين او ساراكينوس
(باللاتينية: Saracenus، ساراسينوس؛ باليونانية: Σαρακηνός، ساراكينوس)
مصطلح استخدمه الرومان للإشارة إلى سكان الصحراء في إقليم البتراء الروماني ثم أصبح يطلق على العرب، وفي العصور الوسطى وخلال الحروب الصليبية توسع المصطلح ليشمل كل الذين يدينون بالإسلام. وانتقل الاسم إلى اللغات الرومانسية وباقي اللغات الأوروبية والتسمية بالإنجليزية هي «ساراسين»
(بالإنجليزية: Saracen)
، ويرد البعض أصل الكلمة للكلمة السريانية ܡܲܫܪܩܐ مشرقا/ مشرقو او المشرق ومن ثم إلى العربية (بالعربية: شرقيون) لوصف المشارقة عموما.
بينما يرد البعض الآخر - وهو التأصيل الأكثر منطقية - أصل الكلمة لكلمة (سارقين)، بسبب هجمات الأعراب في شمال الجزيرة العربية، والقراصنة من شمال أفريقيا، بشكل أميل للصوصية منه لجهاد الروم أو الكفار، وإن تم تعميم اللقب على المجاهدين الصادقين والجيوش الاسلامية الرسمية.

تعليقات

المشاركات الشائعة